ولما ذكر الحق من تخلق بالإيمان ظاهراً وباطناً، ومن تحلّى به كذلك، ومن أخفى الكفر وأظهر الإيمان، دعا الكل إلى توحيده وعبادته، فقال:
[سورة البقرة (٢) : الآيات ٢١ الى ٢٢]
يا أَيُّهَا النَّاسُ اعْبُدُوا رَبَّكُمُ الَّذِي خَلَقَكُمْ وَالَّذِينَ مِنْ قَبْلِكُمْ لَعَلَّكُمْ تَتَّقُونَ (٢١) الَّذِي جَعَلَ لَكُمُ الْأَرْضَ فِراشاً وَالسَّماءَ بِناءً وَأَنْزَلَ مِنَ السَّماءِ ماء فَأَخْرَجَ بِهِ مِنَ الثَّمَراتِ رِزْقاً لَكُمْ فَلا تَجْعَلُوا لِلَّهِ أَنْداداً وَأَنْتُمْ تَعْلَمُونَ (٢٢)
قلت: جملة الترجي حال من الواو في (اعْبُدُوا)، أي: اعبدوا ربكم راجين أن تنخرطوا في سلك المتقين الفائزين بالهدي والفلاح، المستوجبين جوار الله تعالى، نبّه به على أن التقوى منتهى درجات السالكين وهو التبري من كل شيء سوى الله تعالى- إلى الله تعالى.
و (الَّذي جَعَلَ) صفة للرب، و (فَلا تَجْعَلُوا) معطوف على (اعْبُدُوا) على أنه نهي، أو منصوب بأن، جواب له، و (الأنداد) جمع نِدِّ، بكسر النون. وهو الشبه والمثل، و (أَنتُمْ تَعْلَمُونَ) حال من ضمير (فَلاَ تَجْعَلُوا) أي: فلا تجعلوا لله أنداداً والحال أنكم من أهل العلم.
يقول الحق جلّ جلاله: يا عبادي اعبدوني بقلوبكم بالتوحيد والإيمان، وبجوارحكم بالطاعة والإذعان، وبأرواحكم بالشهود والعيان، فأنا الذي أظهرتكم من العدم- أنتم ومَن كان قبلكم- وأسبلت عليكم سوابغ النعم، الأرض تقلكم والسماء تظلكم، والجهات تكتنفكم، وأنزلت من السماء ماء فأخرجت به أصنافاً مِنَ الثَّمَراتِ رِزْقاً لَكُمْ، فأنتم جوهرة الصدق، تنطوي عليكم أصداف مكنوناتي، وأنتم الذين أطلعتكم على أسرار مكنوناتي، فكيف يمكنكم أن تتوجهوا إلى غيري؟ وقد أغنيتكم بلطائف إحساني وبري، أنعمت عليكم أولاً بالإيجاد، وثانياً بتوالي الإمداد، خصصتكم بنور العقل والفهم، وأشرقت عليكم نبذة من أنوار القِدم، فبي عرفتموني، وبقدرتي عبدتموني، فلا شريك معي ولا ظهير، ولا احتياج إلى معين ولا وزير.
الإشارة: توجه الخطاب إلى العارفين الكاملين فى الإنسانية الذين يعبدون الله تعظيماً لحق الربوبية، وقياماً بوظائف العبودية، وفيهم قال صاحب العينية «١» :

هُم الناسُ فالزمْ إنْ عَرفْتَ جَنَابَهُمْ فَفِيهِم لِضُرِّ العالمين منافع
(١) وهو: الشيخ عبد الكريم الجيلي.


الصفحة التالية
Icon