المحمدية، وكمال أدبها مع نبيها- عليه الصلاة والسّلام- فإن النبي صلى الله عليه وسلّم قال يوم الحديبية لأصحابه حين صُد عن البيت: إني ذاهب بالهدي فناحِرُه عند البيت، فقال المقداد بنُ الأسود: أما والله ما تقول لك كما قالت بنو إسرائيل لموسى: فَاذْهَبْ أَنْتَ وَرَبُّكَ فَقاتِلا إِنَّا هاهُنا قاعِدُونَ، ولكن نقاتل عن يمينك وشمالك، ومن بين يديك ومن خلفك، ولو خُضت البحر لخضناه معك، ولو تسنَمت جبلاً لعلوناه معك، ولو ذهبت بنا إلى بَرك الغماد لتبعناك، فلما سمعها أصحاب النبي صلى الله عليه وسلّم تابعوه على ذلك، فَسُرَ صلّى الله عليه وسلّم بذلك وأشرق وجهه «١». هـ.
ولما سمع موسى عليه السلام مقالة قومه له غضب، ودعا ربه فقال: رَبِّ إِنِّي لا أَمْلِكُ إِلَّا نَفْسِي وَأَخِي أي:
لا أثق إلا بنفسي وأخي، ولا قدرة لي على غيرهما، والرجلان المذكوران، وإن كانا موافقين له، لكنه لم يوثق عليهما، لما كبد من تلوّن قومه، ثم دعا عليهم فقال: فَافْرُقْ بَيْنَنا وَبَيْنَ الْقَوْمِ الْفاسِقِينَ أي: احكم بيننا وبينهم بما يستحق كل واحد منا ومنهم، أو بالتبعيد بيننا وبينهم، وتخليصنا من صحبتهم.
رُوِي أنه لما دعا عليهم ظهر فوقهم الغمام، وأوحى الله إليه: يا موسى إلى متى يعصي هذا الشعب؟ لأُهلكنهم جميعًا، فشفع فيهم موسى عليه السلام فقال الله تعالى له: قد غفرت لهم بشفاعتك، ولكن بعد ما سَميتَهم فاسقين، ودعوت عليهم، بي حلفت لأحرمنَّ عليهم دخول الأرض المقدسة، وذلك قوله تعالى: قالَ فَإِنَّها مُحَرَّمَةٌ عَلَيْهِمْ أَرْبَعِينَ سَنَةً يَتِيهُونَ فِي الْأَرْضِ يحتمل أن يكون «أربعين» متعلقًا بمحرمة، فيكون التحريم عليهم مؤقتًا غير مؤبد فيوافق ظاهر قوله: الَّتِي كَتَبَ اللَّهُ لَكُمْ.
ويؤيد هذا ما رُوِي أن موسى- عليه السلام- لما خرج من التيه، سار بمن بقي معه من بني إسرائيل، ويوشع على مقدمته، ففتح بيت المقدس، فبقي فيها ما شاء الله، ثم قبض. ويحتمل أن يكون «أربعين» متعلقًا ب (يتيهون)، فيكون التحريم مؤبدًا، وعلى هذا لم يبق أحد ممن دخل التيه إلا يوشع وكالب، ولم يدخل الأرض المقدسة أحد ممن قال له: (اذهب أنت وربك... )، بل كلهم هلكوا في التيه، وإنما دخلها أشياعهم.
رُوِي أن موسى عليه السلام لما حضره الموت في التيه أخبرهم بأن يوشع بعده نبي، وأن الله أمره بقتال الجبابرة، فسار بهم يوشع، وقاتل الجبابرة، وكان القتال يوم الجمعة، فبقيت منهم بقية، وكادت الشمس أن تغرب ليلة السبت، فخشي أن يعجزوه، فقال: اللهم اردد الشمس عليَّ، وقال للشمس: إنك في طاعة الله وأنا في طاعته، فوقفت مثل يوم حتى قتلهم، ثم قتل ملوك الأرمانيين، وقتل مِن ملوك الشام أحدًا وثلاثين ملكًا، فصارت الشام كلها لبني إسرائيل، وفرّق عماله فى نواحيها، وبقيت بنو إسرائيل في التيه أربعين سنة يتيهون في الأرض في ستة فراسخ، بين فلسطين وأيلة، متحيرين، يسيرون من الصباح إلى المساء جادين في السير، فإذا هم بحيث ارتحلوا عنه، ثم

(١) المشهور أن قول المقداد كان يوم بدر. وقال العلامة ابن كثير: وهذا- إن كان محفوظا يوم الحديبية- فيحتمل أنه كرر هذه المقالة يومئذ، كما قاله يوم بدر. انظر: تفسير ابن كثير.


الصفحة التالية
Icon