قلت: ومَن كان الله همُّه كفاه هَم الدارين. فطالبُ الدنيا أسير، وطالب الآخرة أجير، وطالب الحق أمير. فارفع همتك أيها العبد عن الدار الفانية، وعلق قلبك بالدار الباقية، ثم ارفعها إلى شهود الذات العالية، ولا تكن ممن قصرَ همته على هذه الدار فتكن ممن ليس له في الآخرة إلا النار. وحصّن أعمالك بالإخلاص، وإياك وملاحظة الناس فتبوأ بالخيبة والإفلاس، وبالله التوفيق.
ثم ذكر ضد من تقدم، فقال:
[سورة هود (١١) : آية ١٧]
أَفَمَنْ كانَ عَلى بَيِّنَةٍ مِنْ رَبِّهِ وَيَتْلُوهُ شاهِدٌ مِنْهُ وَمِنْ قَبْلِهِ كِتابُ مُوسى إِماماً وَرَحْمَةً أُولئِكَ يُؤْمِنُونَ بِهِ وَمَنْ يَكْفُرْ بِهِ مِنَ الْأَحْزابِ فَالنَّارُ مَوْعِدُهُ فَلا تَكُ فِي مِرْيَةٍ مِنْهُ إِنَّهُ الْحَقُّ مِنْ رَبِّكَ وَلكِنَّ أَكْثَرَ النَّاسِ لا يُؤْمِنُونَ (١٧)
قلت: (أفمن كان) : مبتدأ، والخبر محذوف، أي: كمن كان يريد الدنيا وزينتها.
يقول الحق جلّ جلاله: أَفَمَنْ كانَ عَلى بَيِّنَةٍ، طريقة واضحة مِنْ رَبِّهِ وهو النبي صلى الله عليه وسلّم والمؤمنون، كمن ليس كذلك، ممن همه الدنيا؟! والمراد بالبينة: ما أدرك صحتَه العقلُ والذوقُ، أي: على برهان واضح من ربه، وهو الدليل العقلي والأمر الجلي. أو برهان من الله يدله على الحق والصواب فيما ياتيه ويذره، وَيَتْلُوهُ ويتبع ذلك البرهان- الذي هو دليل العقل، شاهِدٌ مِنْهُ أي: من الله يشهد بصحته، وهو: القرآن، لأنه مصباح البصيرة والقلب فهو يشهد بصحة ما أدركه العقل من البرهان.
وَمِنْ قَبْلِهِ أي: مِن قبل القرآن، كِتابُ مُوسى يعنى: التوراة، فإنها أيضاً متلوة شاهدة بما عليه الرسول ومن تبعه من البينة الواضحة. أو البينة: القرآن، والشاهد: جبريل عليه السلام، أو عَلِيٌّ- كرم الله وجهه-، أو الإنجيل. وهو حسن، لقوله: وَمِنْ قَبْلِهِ كِتابُ مُوسى فإن التوراة قبل الإنجيل. قال ابن عطية: وهنا اعتراض وهو أن الضمير فى «قبله» عائد على القرآن، فَلِمَ لَمْ يذكر الإنجيل- وهو قبله- بينه وبين كتاب موسى؟
فالانفصال عنه: أنه خَصَّ التوراة بالذكر لأن الملّتين متفقتان على أنها «١» من عند الله، والإنجيل قد خالف فيها.
فكان الاستشهاد بما تقوم به الحجة على الكتابين أولى. وهذا كقول الجن: إِنَّا سَمِعْنا كِتاباً أُنْزِلَ مِنْ بَعْدِ مُوسى «٢». وقول النجاشي: «إن هذا والذي جاء به موسى ليخرج من مشكاه واحدة». هـ. وإذا فسرنا الشاهد بالإنجيل سقط الاعتراض.

(١) فى ابن عطية: مجتمعتان أنهما.
(٢) من الآية ٣٠ من سورة الأحقاف.


الصفحة التالية
Icon