ثم ذكر جزاء المؤمنين فقال: لِلَّذِينَ أَحْسَنُوا فِي هذِهِ الدُّنْيا بالإِيمان والطاعة، حَسَنَةٌ أي: حالة حسنة من النصر، والعز، والتمكين في البلاد، مع الهداية للمعرفة والاسترشاد. وَلَدارُ الْآخِرَةِ خَيْرٌ أي:
ولثواب الآخرة خير مما قدَّم لهم في الدنيا لدوامه، وصفائه، وعظيم شأنه، وعن أنس قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم:
«إنَّ الله لا يَظْلِمُ المُؤْمِنَ حَسَنةً، يُثاب عَلَيها الرزْقَ فِي الدُّنيَا، ويُجَازَى بِهَا فِي الآخِرَة» «١». وَلَنِعْمَ دارُ الْمُتَّقِينَ دار الآخرة، حذفت، لتقدم ذكرها، أو هي: جَنَّاتُ عَدْنٍ يَدْخُلُونَها على الأبد، تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الْأَنْهارُ لَهُمْ فِيها ما يَشاؤُنَ من أنواع المشتهيات حسية ومعنوية، وفي تقديم الظرف في قوله: (فِيها) تنبيه على أن الإنسان لا يجد جميع ما يريد إلا في الجنة. قاله البيضاوي.
كَذلِكَ يَجْزِي اللَّهُ الْمُتَّقِينَ الذين قالوا خيرًا وفعلوا خيرًا، وأحسنوا في دار الدنيا حتى ماتوا على الإحسان، كما قال: الَّذِينَ تَتَوَفَّاهُمُ الْمَلائِكَةُ طَيِّبِينَ: طاهرين من ظُلم أنفسهم بالكفر والمعاصي لأنه في مقابلة ظالمي أنفسهم، وقيل: فرحين لبشارة الملائكة إياهم بالجنة، أو طيبين بقبض أرواحهم لتوجه نفوسهم بالكلية إلى الحضرة القدسية.
قاله البيضاوي. وقال ابن عطية: (طَيِّبِينَ) : عبارة عن صلاح حالهم، واستعدادهم للموت. وهذا بخلاف ما قال في الكفرة: (ظالِمِي أَنْفُسِهِمْ)، والطيب لا خبث معه، ومنه قوله تعالى: طِبْتُمْ فَادْخُلُوها «٢». هـ.
وقال الترمذي الحكيم: (طَيِّبِينَ) أي: مستعدين للقاء، يُسلَّم عليهم، ويقال لهم: ادخلوا الجنة بلا هول ولا حساب، بخلاف غير المستعد للقاء، فإنما يسلم عليه، ويقال له: ادخل الجنة بعد أهوال القبر وأهوال القيامة. هـ. وهذا معنى قوله: يَقُولُونَ سَلامٌ عَلَيْكُمْ لا يلحقكم بعدُ مكروهٌ. وهذا لأجل الاستعداد كما تقدم. ثم تقول لهم: ادْخُلُوا الْجَنَّةَ بعد بعثكم، أو بأرواحكم في عالم البرزخ، إن كانوا من الشهداء أو الصديقين، بِما كُنْتُمْ تَعْمَلُونَ في دار الدنيا.
فإن قلت: كيف التوفيق بين الآية وبين الحديث: «لَن يَدخلَ أحدُكُمُ الجنةَ بعَمَلِهِ، قالوا: ولا أَنْتَ؟ قَالَ: ولا أَنَا، إِلاَّ أنْ يَتَغَمَّدَنِي اللهُ بِرَحْمَتِه» ؟ فالجواب: أن الهداية لصالح العمل، والتوفيق له، هو برحمة الله أيضًا، فالعمل الصالح رحمة من رحمات الله، فما دخل أحد الجنة إلا برحمته، فرجعت الآية إلى الحديث. ومقصد الحديث: نفي وجوب ذلك على الله تعالى بالعقل، كما ذهب إليه فريق من المعتزلة. وهنا جواب آخر صوفي وهو الجمع بين الحقيقة والشريعة، فنسبة العمل إلى العبد شريعة، ونفيه عنه، بإجراء الله ذلك عليه، حقيقة. فالآية سلكت مسلك الشريعة فى
(٢) من الآية ٧٣ من سورة الزمر.