نسبة العمل للعبد فضلاً ونعمة «من تمام نعمته عليك أن خلق فيك ونسب إليك». والحديث سلك مسلك الحقيقة لأن الدين كله دائر بين حقيقة وشريعة، فإذا شرَّع القرآنُ حققته السُّنة، وإذا شرَّعت السُّنةُ حققها القرآن. والله تعالى أعلم.
الإشارة: وقيل للذين اتقوا التقوى الكاملة: ماذا أنزل ربكم من المقادير؟ قالوا: خيرًا، فكل ما ينزل بهم من قدر الله وقضائه، جلاليًّا كان أو جماليًّا، جعلوه خيرًا، وتلقوه بالرضا والتسليم. يقولون: إذا كنتَ أنتَ المُبْتَلِي، فافعل ما شئت، لا يتضعضعون ولا يسأمون، ولا يشكون لأحد سوى محبوبهم لأن الشكوى تنافي دعوى المحبة، كما قال الشاعر:

تَدَّعِي مَذْهبَ الهَوى ثم تَشْكُو... أين دَعْوَاك في الهَوَى، قَل لِيَ: أيْنَا؟
إن شكوت الهوى فما أنت منا احمل الصَّدَ والجفا يا مُعَنَّا
لَو وَجَدْنَاكَ صابرًا لِهَوانا لأعْطيناك كُلَّ ما تتمنى.
وإنما قالوا، في كل ما ينزل بهم: خيرًا، أو جعلوه لطفًا وبرًا لما يجدون في قلوبهم، بسببه، من المزيد والألطاف، والتقريب وطي مسافة النفس، ما لا يجدونه في كثير من الصلاة والصيام سنين لأن الصلاة والصيام من أعمال الجوارح، وما يحصل في القلب من الرضا والتسليم، وحلاوة القرب من الحبيب، من أعمال القلوب، وذرة منها خير من أمثال الجبال من أعمال الجوارح «١».
وفي الخبر: «إذَا أحَبَّ اللهُ عَبْد ابتلاه، فإن صبر اجتباه، وإن رضي اصطفاه». وفي صحيح مسلم أن رسول الله ﷺ قال: «عَجَبًا لأمر المُؤْمن، إنَّ أمرَهُ كُلَّهُ له خير، وليس ذلك لأحد إلا للمؤمن. إن أصابته سراء شكر، فكان خيرا له، وإن أصابته ضراء صبر، فكان خيرا له» «٢»، وفي البخاري ومسلم أن رسول الله ﷺ قال: «ما يُصيب المؤمنَ من وَصَبٍ، ولا نَصَبٍ، ولا سَقَمٍ، ولا حَزَنٍ، حتى الهَمُّ يُهِمُّه، إلاَّ كفّر له من سيئاته» «٣»، وقال أيضاً:
صلى الله عليه وسلم: «مَا مِن مُسلمٍ يُصيبه أَذىً من مرض فَمَا سَواه، إلا حَطَّ به عنه سَيِّئاتِهِ كَمَا تَحُطَّ الشَّجَرَةُ وَرَقَهَا». «٤». ورُوي عن عيسى عليه السلام أنه كان يقول: لا يكون عالمًا من لم يفرح بدخول المصائب والأمراض على جسده وماله لِمَا يرجو بذلك من كفارة خطاياه. هـ. فتحصل أن ما ينزل بالمؤمن كُلَّهُ خير، فإذا سئل: ماذا أنزل ربكم؟ قال: خيرا.
(١) ليس هذا مفيدا لتقليل شأن الصلاة والصوم.. إلخ، وإنما يريدك الشيخ أن تجعل عمل القلب مع عمل الجارحة.
(٢) رواه مسلم فى (الزهد، باب المؤمن أمره كله خير)، عن صهيب رضى الله عنه.
(٣) رواه البخاري فى (المرض، باب ما جاء فى كفارة المرض)، ومسلم فى (البر والصلة، باب ثواب المؤمن فيما يصيبه)، عن أبى هريرة رضي الله عنه.
(٤) أخرجه البخاري فى (المرض، باب قول المريض: إنى وجع)، ومسلم فى (البر والصلة، باب ثواب المؤمن فيما يصيبه من مرض..) من حديث ابن مسعود- رضى الله عنه.


الصفحة التالية
Icon