يقول الحق جلّ جلاله: أَلَمْ يَرَوْا، وفي قراءة: ألم تروا «١» بتوجيه الخطاب لعامة الناس، إِلَى الطَّيْرِ مُسَخَّراتٍ: مذللات للطيران بما خلق لها من الأجنحة والأسباب المواتية، فِي جَوِّ السَّماءِ في الهواء المتباعد من الأرض. ما يُمْسِكُهُنَّ فيه إِلَّا اللَّهُ فإن ثِقلَ جسدها يقتضي سقوطها، ولا علاقة فوقها ولا دعامة تحتها تمسكها، إِنَّ فِي تسخيره ذلِكَ لها لَآياتٍ لعبرًا ودلالة على قدرته تعالى إذ لا فاعل سواه فإنَّ إمساك الطيران في الهواء هو على خلاف طباعها، لولا أن القدرة تحملها، ففيه آيات لِقَوْمٍ يُؤْمِنُونَ لأنهم هم المنتفعون بها.
وَاللَّهُ جَعَلَ لَكُمْ مِنْ بُيُوتِكُمْ سَكَناً: موضعًا تسكنون فيه وقت إقامتكم، كالبيوت المتخذة من الحجر والمدَر. و «مِنْ» للبيان، أي: جعل لكم سكنًا، أي: موضعًا تسكنونه، وهو بيوتكم، وَجَعَلَ لَكُمْ مِنْ جُلُودِ الْأَنْعامِ بُيُوتاً، هي القباب المتخذة من الأدم، ويجوز أن يتناول المتخذة من الوبَر والصوف والشعر، فإنها، من حيث إنها نابتة على جلودها، كأنها من جلودها، تَسْتَخِفُّونَها أي: تجدونها خفيفة، يخف عليكم حملها وثقلها يَوْمَ ظَعْنِكُمْ أي: سفركم، وفيه لغتان: الفتح والسكون «٢»، وَيَوْمَ إِقامَتِكُمْ: حضوركم، أو نزولكم، وَجعل مِنْ أَصْوافِها أي: الغنم، وَأَوْبارِها أي: الإبل، وَأَشْعارِها أي: المعز، أَثاثاً:
متاعًا لبيوتكم كالبسُط والأكسية، وَمَتاعاً تمتعون به إِلى حِينٍ إلى مدة من الزمان، فإنها، لصلابتها، تبقى مدة مديدة، أو: إلى مماتكم، أو: إلى أن تقضوا منها أوطاركم، أو: إلى أن تبلى.
وَاللَّهُ جَعَلَ لَكُمْ مِمَّا خَلَقَ من الشجر والجبال والأبنية، وغيرها، ظِلالًا تتقون بها حر الشمس، وَجَعَلَ لَكُمْ مِنَ الْجِبالِ أَكْناناً جمع: كَن، ما تكنون، أي: تستترون به من الحر والبرد، كالكهوف والغيران والبيوت المجوفة فيها، وَجَعَلَ لَكُمْ سَرابِيلَ جمع: سربال ثيابًا من الصوف والكتان والقطن وغيرها، تَقِيكُمُ الْحَرَّ والبرد، وخص الحر بالذكر، اكتفاء بأحد الضدين، أو لأن وقاية الحر كانت أهم عندهم.
وَسَرابِيلَ تَقِيكُمْ بَأْسَكُمْ: حربكم، كالطعن والضرب. وهي: الدروع، وتسمى: الجواشن، جمع جَوشن، وهو الدرع، كَذلِكَ كإتمام هذه النعم بخلق هذه الأشياء المتقدمة، يُتِمُّ نِعْمَتَهُ عَلَيْكُمْ في الدنيا بخلق ما تحتاجون إليه، لَعَلَّكُمْ يا أهل مكة تُسْلِمُونَ أي: تنظرون في نعمه، فتؤمنون به، أو تنقادون لحكمه.
وفي قراءة: بفتح التاء، أي: تسلمون من العذاب بالإيمان، أو تنظرون فيها، فتوحدون، وتَسلمون من الشرك، أو من الجراح بلبس الدروع.
(٢) قرأ ابن عامر وعاصم وحمزة والكسائي بإسكان العين، والباقون بفتحها.