الإشارة: الحياة الطيبة إنما تتحقق بكمالها عند أهل التجريد حيث انقطعت عنهم الشواغل في الظاهر، والعلائق في الباطن، فاطمأنت قلوبهم بالله، وسكنت أرواحهم في حضرة الله، وتحققت أسرارهم بشهود الله، فدام سرورهم، واتصل حبورهم بحلاوة معرفة محبوبهم، وهذه نتيجة شرب الخمرة الأزلية، كما قال ابن الفارض في مدحها:

وإِنْ خَطَرَتْ يوما علَى خاطِر امْرِئ أقَامَتْ بِهِ الأفراحُ، وارتحلَ الهمّ
هذا في الخطور، فما بالك بالسكون ودوام الحضور؟ وقال أيضًا في شأنها:
فما سكَنتْ والهمَ، يوماً، بموضع كذلك لا يسكُنْ مع النغَم الغَمُّ
وإنما تحقق لهم هذا الأمر العظيم لرسوخ قدمهم في مقام الإحسان، وسكونهم في جنة العرفان، فَهَبَّ عليهم نسيم الرضا والرضوان، وترقت أرواحهم إلى مقام الروح والريحان، فقلوبهم بحار زاخرة لا تكدرها الدلاء، وأرواحهم أنوار ساطعة لا يؤثر فيها ليل القبض والابتلاء، وأسرارهم بأنوار المواجهة مشرقة، فدام سرورها بكل ما يبرز من عنصر القضاء. والحاصل: أن أهل هذا المقام عندهم من الإكسير والقوة ما يقلبون به الأعيان، فيقلبون الشرِّيات خيريات، والمعاصي طاعات، والإساءة إحسانًا، والجلال جمالاً.. وهكذا، فأَنَّى تغير قلوبَ هؤلاء الأكدارُ؟
وأنى تنزل بساحتهم الأغيارُ، وهم في حضرة الكريم الغفار؟ نفعنا الله بذكرهم، وخرطنا فى سلكهم، آمين.
ومن جملة الحياة الطيبة: التنعم بحلاوة القرآن، ولا يتحقق ذلك إلا بالبعد والحفظ من خوض الشيطان، ولذلك أمر بالتعوذ منه عند قراءته، فقال:
[سورة النحل (١٦) : الآيات ٩٨ الى ١٠٠]
فَإِذا قَرَأْتَ الْقُرْآنَ فَاسْتَعِذْ بِاللَّهِ مِنَ الشَّيْطانِ الرَّجِيمِ (٩٨) إِنَّهُ لَيْسَ لَهُ سُلْطانٌ عَلَى الَّذِينَ آمَنُوا وَعَلى رَبِّهِمْ يَتَوَكَّلُونَ (٩٩) إِنَّما سُلْطانُهُ عَلَى الَّذِينَ يَتَوَلَّوْنَهُ وَالَّذِينَ هُمْ بِهِ مُشْرِكُونَ (١٠٠)
يقول الحق جلّ جلاله: فَإِذا قَرَأْتَ الْقُرْآنَ أردت قراءته، كقوله: إِذا قُمْتُمْ إِلَى الصَّلاةِ «١»، فَاسْتَعِذْ بِاللَّهِ مِنَ الشَّيْطانِ الرَّجِيمِ أي: فسل الله أن يعيذك من وسواسه لئلا يوسوسك في القراءة، فيحرمك حلاوة التلاوة فإنه عدو لا يحب لابن آدم الربح أبدًا، والجمهور على أنه مستحب عند التلاوة، وعن عطاء: أنه واجب. ومذهب مالك: أنه لا يتعوذ في الصلاة. وعند الشافعي وأبي حنيفة: يتعوذ في كل ركعة تمسكا بظاهر
(١) من الآية ٦ من سورة المائدة.


الصفحة التالية
Icon