يقول الحق جلّ جلاله: إِلَّا عِبادَ اللَّهِ الْمُخْلَصِينَ- بفتح اللام، وكسرها «١» - أي: لكن عباد الله المخلصين في أعمالهم، أو: الذين أخلصهم الله ونجاهم من الشرك، فليسوا مع أولئك المعذّبين، بل أُولئِكَ المخلصون لَهُمْ رِزْقٌ مَعْلُومٌ، يأتيهم بكرة وعشياً، كحال المياسير في الدنيا، فهو معلوم الوقت لأن النفس إليه أسكن. قال القشيري: قد كان في وقت الرسول ﷺ مَن له رزقٌ معلومٌ، فهو من جملة المياسير، وهذه صفة أهل الجنة، لهم في الآخرة رزقٌ معلوم لأبشارهم وأسرارهم، فالأغنياء- اليوم- لهم رزق معلوم لأبشارهم، والفقراء لهم رزق معلوم لقلوبهم وأسرارهم. هـ.
ثم فسّره بقوله: فَواكِهُ: جمع فاكهة، وهي كل ما يتلذّذ به، فليس قوتهم لحفظ الصحة، بل رزقهم كله فواكه لأنهم مستغنون عن حفظ الصحة بالأقوات لأن أجسامهم نورانية مخلوقة للأبد، فما يأكلونه إنما هو للتلذُّذ.
أو: معلوم، أي: منعوت بخصائص خلق عليها من طيب طعم، ورائحة، ولذّة، وحسن منظر، وَهُمْ مُكْرَمُونَ:
معظَّمون. قال القشيري: من ذلك: ورد الرسُل عليهم من قِبَلِ الله- عزّ وجل- في كل وقت، وكذلك اليومَ الخطابُ وارد على قلوب الخواص في كل وقتٍ بكلِّ أمر. هـ.
وقوله: فِي جَنَّاتِ النَّعِيمِ، إما ظرف لمكرمون، أو: حال، أو: خبر، أي: في جنةٍ ليس فيها إلا النعيم المقيم. وكذا عَلى سُرُرٍ مُتَقابِلِينَ: يُقابل بعضها بعضاً، إن استوت درجتهم، فالتقابل أتم للسرور، وآنس.
يُطافُ عَلَيْهِمْ بِكَأْسٍ إناء من زجاج فيه شراب، ولا يكون كأساً حتى يكون فيه شراب، وإلا فهو إناء.
وقد تسمّى الخمر كأساً. قال الأخفش: كل كأس في القرآن فهو خمر. ومثل لابن عباس. مِنْ مَعِينٍ من خمر معين، أي: جارية في أنهار ظاهرة للعيون، وصف بما وصف به الماء لأنه يجري في الجنة أنهاراً، كما يجري الماء، قال تعالى: وَأَنْهارٌ مِنْ خَمْرٍ «٢». وقوله: بَيْضاءَ صفة للكأس، أي: صافية في نهاية اللطافة.
لَذَّةٍ لِلشَّارِبِينَ أي: لذيذة للشاربين، وصفت باللذة، كأنها نفس اللذَة وعينُها. أو: ذات لذة. لا فِيها غَوْلٌ أي: لا تغتال عقولَهم فتذهب بها، كخمر الدنيا، وهو من: غاله يغوله: إذا أهلكه وأفسده. أو: لا فيها غول: إثم، أو وجع بطن أو صداع، وهو وجع الرأس، أي: لا ينشأ عنها شيء مما ذكر. وَلا هُمْ عَنْها يُنْزَفُونَ يسكرون، من:
نُزِف الشارب: إذا ذهب عقله. ويقال للسكران: نزيف، ومنزوف. ومَن قرأ بكسر الزاي «٣» فمعناه: لا يَنْفَد شرابهم، يقال: أنزف الرجل فهو مُنزف: إذا فنيت خمرته.
(٢) من الآية ١٥ من سورة سيدنا محمد.
(٣) قرأ بذلك حمزة، والكسائي. وقرأ الباقون بفتح الزاى.. انظر الإتحاف (٢/ ٤١١).