وَنُزِّلَ الْمَلائِكَةُ تَنْزِيلًا عجيباً غير معهود. رُوي أن السموات تنشق سماءً سماءً، وتنزل ملائكة كل سماء في ذلك الغمام، وفي أيديها صحائف أعمال العباد، فيفصل الله بين خلقه، ولذلك قال: الْمُلْكُ يَوْمَئِذٍ الْحَقُّ لِلرَّحْمنِ أي: السلطنة القاهرة، والاستيلاء العام، الثابت الذي لا زوال له أصلاً، هو للرحمن وحده لأن كل ملْك يزول يومئذٍ، ولا يبقى إلا ملكه.
وفائدة التقييد، مع أن المُلك لله في الدنيا والآخرة لأن في الدنيا قد تظهر صورة الملك للمخلوق مجازاً، ويكون له تصرف صوري، بخلاف يوم القيامة، ينقطع فيه الدعاوي، ويظهر الملك لله الواحد القهار، وَكانَ يَوْماً عَلَى الْكافِرِينَ عَسِيراً أي: وكان ذلك اليوم، مع كون الملك للمبالغ في الرحمة، عَسِيراً أي: صعباً، شديداً على النفوس بالنسبة للكافرين، وأما على المؤمنين فيكون يسيراً، بفضل الله تعالى. وقد جاء في الحديث: أنه يهون يوم القيامة على المؤمنين، حتى يكون أخف عليهم من صلاة مكتوبة، صلَّوْهَا في الدنيا. ففي حديث أبي سعيد الخِدري حيث قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: فِي يَوْمٍ كانَ مِقْدارُهُ خَمْسِينَ أَلْفَ سَنَةٍ، قلت: يا رسول الله، ما أطول هذا اليوم؟ فقال صلى الله عليه وسلم: «والذي نفسي بيده إِنَّهُ ليُخَفَّفُ على المؤمِنِ حتى يكونَ أخفَّ عليه من صلاةٍ مكتوبة يُصلّيها في الدنيا» «١».
وَاذكر أيضاً يَوْمَ يَعَضُّ الظَّالِمُ عَلى يَدَيْهِ ندماً وتحسراً، فعض اليد والأنامل: كناية عن شدة الغيظ والحسرة لأنها من روادفها، فتذكر المرادفة ويراد بها المردوف، فيرتفع الكلام بذلك في طبقة الفصاحة، ويجد السامع في نفسه من الروعة ما لا يجده عند اللفظ المكنى عنه.
والمراد بالظالم: إما عُقبةَ بْن أَبِي مُعيط، وكان خليلاً لأُبَيّ بن خلف، وكان عقبة يكثر مجالسة النبي صلى الله عليه وسلم، فقدم من سفر وصنع طعاما، فدعا إليه أشراف قومه، ودعا النبي صلى الله عليه وسلم، فلما قُرِّب الطعام، قال النبي صلى الله عليه وسلم: «ما أنا بآكل من طعام، حتى تشهد أن لا إله إلا الله، وأني رسول الله». فقال عقُبة: أشهد أن لا إله إلا الله، وأنّ محمدًا رسول الله. فأكل النبي ﷺ طَعَامه، وكان أُبي بن خلف غائباً، فلما أُخبر، قال له: صَبأتَ يا عُقبة؟ فقال: لاَ، والله ما صبأتُ، ولكن دخل عليّ رجل فأَبَى أن يأكُلَ من طَعَامِي إلا أن أشهد له، فاسْتَحْيَيْتُ أَنْ يخرج من بيتي ولم يطعم، فَشَهِدْتُ لَهُ، فطعم، فقال: ما أنا بالذي أرضى عنك أبداً، حتى تأتيه فَتبْزُق في وَجْهِهِ، وتَطَأَ عُنقه، فَوَجَدَهُ ﷺ سَاجِداً، فَفعَل ذَلِكَ، وأخذ رَحِم دابته فألقاها بين كتفيه، فقال النبي صلى الله عليه وسلم: «لا ألْقَاكَ خَارجاً من مكّة إلا علوت