ونصرتهم تكون أولاً بالظفر بنفوسهم، ثم بالغيبة عن حس الكائنات، باتساع دائرة المعاني، ثم بالتصرف في الوجود بأسره بهمته. قال القشيري: ويقال: ينصرهم على أعدائهم بلطف خفيّ، وكيد غير مرئيّ، من حيث يحتسب أو لا يحتسب، كما ينصرهم في الدنيا على تحقيق المعرفة، واليقين بأنَّ الكائنات من الله. ثم قال: غاية النصرة أن يَقتُلَ الناصرُ عدوَّ مَنْ ينصره، [فإذا رآه حقق له] «١» أنه لا عَدُو له في الحقيقة، وأنَّ الخلق أشباحٌ، وتجري عليهم أحكام القدرة، فالولِيُّ لا عدوَّ له ولا صديق، ليس له إلا الله. قال الله تعالى: اللَّهُ وَلِيُّ الَّذِينَ آمَنُوا «٢» هـ. والنصر في الحقيقة هو التأييد عند التعرفات، فإذا ابتلي الرسول أو الولي أيّده الله باليقين، ونصره بالمعرفة، فيلقي ما ينزل عليه بالرضا والتسليم، وتذكّر مالقى به الشاذلي حين دعا بالسلامة مما ابتلي به الرسل، متعللاً بأنهم أقوى، فقيل له: قل: وما أردتَ من شيء فأيَّدْنا كما أيدتهم. هـ.
ثم وعد نبيه بالنصر، كما نصر موسى وغيره، فقال:
[سورة غافر (٤٠) : الآيات ٥٣ الى ٥٦]
وَلَقَدْ آتَيْنا مُوسَى الْهُدى وَأَوْرَثْنا بَنِي إِسْرائِيلَ الْكِتابَ (٥٣) هُدىً وَذِكْرى لِأُولِي الْأَلْبابِ (٥٤) فَاصْبِرْ إِنَّ وَعْدَ اللَّهِ حَقٌّ وَاسْتَغْفِرْ لِذَنْبِكَ وَسَبِّحْ بِحَمْدِ رَبِّكَ بِالْعَشِيِّ وَالْإِبْكارِ (٥٥) إِنَّ الَّذِينَ يُجادِلُونَ فِي آياتِ اللَّهِ بِغَيْرِ سُلْطانٍ أَتاهُمْ إِنْ فِي صُدُورِهِمْ إِلاَّ كِبْرٌ ما هُمْ بِبالِغِيهِ فَاسْتَعِذْ بِاللَّهِ إِنَّهُ هُوَ السَّمِيعُ الْبَصِيرُ (٥٦)
يقول الحق جلّ جلاله: وَلَقَدْ آتَيْنا مُوسَى الْهُدى ما يهتدي به من المعجزات، أو الشرائع والصُحف. وَأَوْرَثْنا بَنِي إِسْرائِيلَ الْكِتابَ أي: تركنا فيهم التوراة، يرثه بعضهم من بعض، أو: جنس الكتاب، فيصدق بالتوراة والإنجيل والزبور لأنَّ المنزَّل عليه منهم. قال الطيبي: فيه إشارة إلى أن ميراث الأنبياء ليس إلا العلم والكتاب الهادي، الناطق بالحكمة والموعظة. هـ. حال كون الكتاب هُدىً وَذِكْرى أي: هادياً ومُذكِّراً، أو: إرشاداً وتذكرة لِأُولِي الْأَلْبابِ لأولي العقول الصافية، العالِمين بما فيه، العاملين به.

(١) عبارة القشيري: [فإذا أراد حتفه تحقق].
(٢) من الآية ٢٥٧ من سورة البقرة.


الصفحة التالية
Icon