كُشف عنا العذاب، قال تعالى: أَنَّى لَهُمُ الذِّكْرى أي: كيف يذَّكرون ويتَّعظون ويَفُون بما وعدوه من الإيمان عند كشف العذاب، وَقَدْ جاءَهُمْ رَسُولٌ مُبِينٌ أي: والحال أنهم يُشاهدون من دواعي التذكير وموجبات الاتعاظ، ما هو أعظم منه، حيث جاءهم رسول عظيم الشأن، بيِّن البرهان، يُبين لهم مناهج الحق بإظهار آيات ظاهرة، ومعجزات قاهرة، تخرّ لها صُمّ الجبال.
ثُمَّ تَوَلَّوْا عَنْهُ أي: عن ذلك الرّسول، بعد ما شاهدوا من العظائم ما يوجب الإقبال عليه، ولم يقنعوا بالتولِّي، بل اقترفوا ما هو أشنع، وَقالُوا في حقه عليه السلام: مُعَلَّمٌ مَجْنُونٌ أي: قالوا تارة مُعَلَّم يُعلمه غلام أعجمي لبعض ثقيف، وتارة مجنون، أو: يقول بعضهم كذا، وبعضهم كذا، وكيف يتوقع من قوم هذه صفتهم أن يتأثروا بالعظة والتذكير؟! قال تعالى: إِنَّا كاشِفُوا الْعَذابِ قَلِيلًا أي: زمنا قليلاً، أو كشفاً قليلاً، إِنَّكُمْ عائِدُونَ إلى الكفر، الذي أنتم فيه، أو: إلى العذاب بعد صرف الدخان، على القول الأول، يَوْمَ نَبْطِشُ الْبَطْشَةَ الْكُبْرى يوم بدر، أو يوم القيامة، إِنَّا مُنْتَقِمُونَ أي: ننتقم منهم في ذلك اليوم. وانتصاب يَوْمَ نَبْطِشُ باذكر أو بما دلّ عليه (إنا منتقمون)، وهو ننتقم، لا بمنتقمون، لأن ما بعد «إن» لا يعمل فيما قبله.
الإشارة: فارتقب أيها العارف يَوْمَ تَأْتِى السماء بِدُخَانٍ مبين، أي: يوم يبرز من سماء الغيوب بدخان الحس، وظلمة الأسباب تغشى قلوب الناس، فتحجبهم عن شمس العرفان، هذا عذاب أليم موجع للقلوب، حيث حجبها عن حضرة علاّم الغيوب. وأما العارف فشمسه ضاحية، ونهاره مشرق على الدوام، كما قال شاعرهم:
لَيلِي بوجهكَ مشْرقٌ | وظلامُهُ في الناس سَارِ |
الناسُ في سَدَفِ الظَّلامِ | ونحنُ في ضوءِ النَّهارِ |
وقال آخر:طلعت شمسُ مَنْ أُحِبُّ بِليلٍ | فَاسْتَنارَتْ فَمَا تَلاَهَا غُرُوبُ |
إنَّ شمس النهار تَغْربُ بِليلٍ | وشَمْسَ القُلوب لَيْسَتْ تَغيبُ «١» |
قال القشيري: قيامة هؤلاء- أي الصوفية- مُعَجَّلة لهم، يوم تأتي السماء فيه بدخان مبين، وهو باب غيبة الأخبار، وانسداد باب ما كان مفتوحاً من الأنس بالأحباب. قلت: وأحسن من عبارته أن تقول: وهو باب غيبة الأنوار، وانسداد منبع الأسرار. ثم قال: وفي معناه قالوا: