ثم قال: ويقال: إن المؤمن بقوة عقله يوجبُ [استقلاله بعمله] «١» إلا أن يبرُز منه كمالٌ يُمكِّنه من وفارة بصيرته، ثم إذا بدت لائحةٌ من سلطان المعارف تصير تلك [الأبواب] «٢» مغمورة، فإذا بَدَتْ أنوارُ التوحيد استهلكت تلك الجملة كذلك، وأنشدوا:

فلمَّا استبان الصبحُ أدرج ضوءُه بأنواره ضوء الكواكب «٣». هـ.
قلت: استقلال العبد بعمله هو مثل بروز الزرع من منبته، ووفُورِ بصيرته هو إخراج حبه في سنبله، وبدو لائحة من سلطان المعارف هو اصفراره، وظهور أنوار التوحيد التي تفني وجوده وتغمره في وجود الحق هو صيرورتها حطاما، فتأمل. وهذا كله نتيجة شرح الصدر الذي أشار إليه بقوله:
[سورة الزمر (٣٩) : آية ٢٢]
أَفَمَنْ شَرَحَ اللَّهُ صَدْرَهُ لِلْإِسْلامِ فَهُوَ عَلى نُورٍ مِنْ رَبِّهِ فَوَيْلٌ لِلْقاسِيَةِ قُلُوبُهُمْ مِنْ ذِكْرِ اللَّهِ أُولئِكَ فِي ضَلالٍ مُبِينٍ (٢٢)
قلت: الهمزة للإنكار، ومِنْ: مبتدأ، والخبر محذوف، أي: كمَن ليس كذلك.
يقول الحق جلّ جلاله: أَفَمَنْ شَرَحَ اللَّهُ صَدْرَهُ أي: وسَّعه وهيَّأه لِلْإِسْلامِ حتى قَبِله وفرح به، واستضاء بنوره، فَهُوَ عَلى نُورٍ عظيم مِنْ رَبِّهِ، وبصيرة في دينه، وهذا النور: هو اللطف الإلهي الفائض عليه عند مشاهدة الآيات التكوينية والتنزيلية، والتوفيق للاهتداء بها، أو: بمحض الإلهام من الجود والكرم، فيقذف في قلبه نور اليقين، بلا سبب، أو: بصحبة أهل النور، هل يكون هذا كمَن قسا قلبه، وحرج صدره، واستولى عليه ظلمة الغي والضلالة، فأعرض عن تلك الآيات بالكلية؟! ولمَّا نزلت هذه الآية سئل صلّى الله عليه وسلم عن الشرح المذكور، فقال: «نُورٌ يقذفه الله في القلب، فإذا دخل النور القلب انشرح وانفسح» قيل: وهل لذلك علامة؟ قال: «نعَمَ التَّجَافي عَن دَارِ الغُرُورِ، والإنَابَةُ إلى دَارِ الخُلُودِ، والاستِعدَادُ للمَوتِ قبل نزوله» «٤».
(١) فى القشيري: [استفادة له بعلمه]
(٢) فى القشيري (الأنوار).
(٣) أنشده أبو العباس السهارى. كما فى طبقات الأولياء (٣٦٧). وجاء فى طبقات الصوفية للسلمى (٤٤٧) : أنشده أبو العباس السياري، واسمه: القاسم بن القاسم بن مهدى.
(٤) أخرجه البغوي فى تفسيره (٧/ ١١٤) والحكيم الترمذي في نوادر الأصول، في (الأصل السادس والثمانين) والحاكم فى المستدرك (٤/ ٤١١) وسكت عنه. والبيهقي فى الشعب (ح ١٠٥٥٢) من حديث عبد الله بن مسعود رضي الله عنه.


الصفحة التالية
Icon