صورته التي يتجلّى بها لعباده في المحشر وفي الجنة، ولا يفهم هذا إلاَّ الغواصون في بحر الأحدية، وحسْب مَن لم يَبلُغ مقامهم التسليم ونفي التشبيه، فالعارفون يعرفون الله في جميع تجلياته، ولا ينكرونه في شيء منها، وأمّا ما ورد في حديث التجلِّي الأول لأهل المحشر فيُنكرونه، ويقولون: " حتى يأتينا ربنا "، فإنما يقول ذلك علماء الظاهر، أهل الدليل، وأما العارفون فقد عرفوه وأقرُّوه، وسكتوا ستراً للسر الذي عرّفهم به، ولذلك كتب ابن العربي الحاتمي إلى الفخر الرازي فقال: تعال نعرِّفك بالله اليوم، قبل أن يتجلّى لك يوم القيامة، فتُنكره فيمن يُنكره. هـ.
وقال الورتجبي: أخبر الله سبحانه أنه يكشف يوم الشهود لعشاقه وأحبابه ومُشتاقيه وعُرفائه عن بعض صفاته الخاصة، ويتجلّى منها لهم، وهو كشف في ستر الغَيرة عن أسرار القِدَم، فيُشاهدونها، فيُدعَون إلى السجود من حيث غشيتهم أنوار العظمة، حتى لا يحرقوا في كَشفِ سر الصفة؛ فإنها موضع العظمة والكبرياء، وبُدُوّ لطائف أنوار أسرار الذات تظهر في لباس الالتباس، حتى لا يفنيهم فناء لا بقاء بعده، والمقصود منه زوائد المحبة، والنظر إلى وجود العظمة. هـ. قلت: وحاصل كلامه: أن الحق تعالى إنما تجلّى لعباده في الصورة الآدمية، حتى كشف عن ساقه غِيرةَ على سر الربوبية أن يظهر، وهو المراد بقوله: يكشف لعشاقه عن بعض صفاته، ويتجلى منها ـ أي: من تلك الصورة ـ لهم، وهو كشف في ستر الغيرة. وأيضاً: لو كشف لهم عن أسرار جبروته بلا واسطة لاحترقوا، لكن تجلّى بأنوار صفاته ليطيقوا رؤيته، يظهر لهم في لباس الالتباس، وهو إظهار الصورة الآدمية، ليبقوا بين فناء وبقاء، بين سكر وصحو، ولو تجلّى بأسرار ذاته الأصلية لاحترقوا، أو سكروا بلا صحو، وفنوا بلا بقاء. والله تعالى أعلم.
يقول الحق جلّ جلاله: ﴿فَذَرْني ومَن يُكذِّب بهذا الحديث﴾ أي: القرآن، والمعنى: كِلّ أمره لي، وخلِّ بيني وبينه، فإني أكفيك أمره؛ لأني عليم بما يستحق من العذاب، ومطيق له. والفاء لترتيب الأمر على ما قبلها من أحوالهم المحكية، أي: إذا كان حالهم في الآخرة كذلك فذرْني ومَن يُكَذِّب بالقرآن، وتوكل عليّ في الانتقام منه،