الإشارة: الحاقة هي تجلِّي الحقيقة الأحدية، وظهور الخمرة الأزلية، لقلوب العارفين؛ لأنها تُحق الحق وتُزهق الباطل، تظهر بها حقائق الأشياء على ما هي عليه في الأصل. قال الورتجبي: الحاقة يوم تحق حقائق الأمور عياناً، لا يبقى فيها ريب أهل الظنون، ينكشف الحق لأهل الحق، ولا معارضة للنفس فيها، ويتبين للجاهلين أعلام ولاية العارفين. هـ. ثم عظَّمها وهوَّل أمرها، فقال: ﴿ما الحاقة وما أدراك ما الحاقة﴾ لا يدريها إلاّ الشجعان من الرجال الأقوياء، والكمَّال، كما قال الجيلاني رضي الله عنه:
وإيَّاكَ جَزعاً لا يَهُولُكَ أمْرُها
فَمَا نَالَها إلاَّ الشُّجَاعُ المُقَارعُ
ثم ذكر أنَّ مَن أنكرها أو كذّب بوجودها من النفوس العادية، والقلوب القاسية، يهلك في مهاوي الفروقات، برجفة الوساوس والخواطر، أو رياح الفتن الباطنة والظاهرة، سخّرها عليهم سبع ليالٍ على عدد الجوارح السبعة، وثمانية أيام. قال القشيري: أي: أيام كاشفات لسبع صفات الطبيعية، وهي: الغضب، والشهوة، والحقد، والحسد، والبُخل، والجُبن، والعجب، والشره، حُسوماً، أي: تحسم، وتقطع أمور الحق وأحكامه من الخيرات والمبرّات. هـ.
يقول الحق جلّ جلاله: ﴿وجاء فرعونُ ومَنْ قبله﴾ أي: ومَن تقدمه. وقرأ البصري والكسائي: (ومَن قِبَلَهُ) بكسر القاف، أي: ومَن عنده من أتباعه وجنوده، ويؤيده أنه قُرىء " ومن معه ". ﴿والمؤتفكاتُ﴾ وهي قُرى قوم لوط؛ لأنها ائتفَكت، أي: انقلبت بهم، أي: وجاء أهل المؤتفكات ﴿بالخاطئة﴾ ؛ بالخطأ، أو بالفعلة، أو الأفعال الخاطئة، أي: ذات الخطأ، التي من جملتها: تكذيب البعث والقيامة. ﴿فَعَصَوا رسولَ ربهم﴾ أي: عصت كل أمة رسولها، حيث نهوهم عما كانوا يتعاطونه من القبائح، ﴿فأخَذّهم﴾ أي: الله عزّ وجل ﴿أخذةً رابيةً﴾ أي: زائدة في الشدة، كما زادت قبائحهم في القُبح، من: ربا الشيء إذا زاد.
﴿إِنَّا لَمَّا طغى الماءُ﴾ ؛ ارتفع وقت الطوفان، على أعلى جبل في الدنيا، خمسة عشر ذراعاً، بسبب إصرار قوم نوح على فنون المعاصي، ومبالغتهم في تكذيبه عليه السلام وما أوحي إليه من الأحكام، التي من جملتها أحوال الحاقة، ﴿حملناكم﴾ أي: في أصلاب آبائكم، محمولين ﴿في الجارية﴾ ؛ في سفينة نوح عليه السلام، والمراد: حملهم فيها أيام الطوفان، فالجار متعلق بمحذوف حال، لا صلة لحملنا، أي: رفعناكم فوق الماء، حال كونكم محمولين في السفينة بأمرنا وحفظنا. وفيه تنبيه على أنَّ مدار