الجن وكبيرهم، فإذا سمعوا بذلك استكبروا وقالوا: سُدنا الإنس والجنّ، وذلك قوله تعالى: ﴿فزادوهم﴾ ؛ زاد الإنسُ والجنَّ باستعاذتهم بهم ﴿رَهَقاً﴾ : طغياناً وسفهاً وتكبُّراً وعتواً، أو: فزاد الجنُّ والإنسَ رهقاً: إثماً وغيًّا؛ بأن أضلوهم، حتى استعاذوا بهم. ﴿وأنهم﴾ أي: الجن ﴿ظنوا كما ظننتم﴾ يا أهل مكة ﴿أن لن يبعثَ اللهُ أحداً﴾ بعد الموت، أي: إنَّ الجن كانوا يُنكرون البعث كإنكاركم يا معشر الكفرة، ثم بسماع القرآن اهتدوا، وأقرُّوا بالبعث، فهلاّ أقررتم كما أقرُّوا؟ ! أو: ظنوا ألن يبعث اللهُ رسولاً من الإنس. وبالله التوفيق.
الإشارة: كما كانت تسمع الجنُّ من الرسول ﷺ وتأخذ عنه، كذلك تسمع من خلفائه من الأولياء والعلماء الأتقياء، فهي تحضر مجالسَ الذكر والتذكير والعلم، على حسب ما يطلب كلُّ واحد منهم، وقد حدثني بعضُ أصحابنا أنه بات في موضع خالٍ، فأتاه رجلان من الجن وتحدّثا معه، وأخبره أنهما من الجن نازلان مع قومهما في ذلك الموضع، وقالا له: إنا لنحضر مجلس شيخكما ـ أي: مولاي العربي الدرقاوي رضي الله عنه ـ ونسمع منه. هـ. ففيهم الأولياء، والعلماء، والقُراء، وسائر الطرائق، كما يأتي في قوله: ﴿طرائق قِدداً﴾. وقال الورتجبي: خلق اللهُ بعض أوليائه من الجن، لهم أرواح ملكوتية، وأجسام روحانية، وهم إخواننا في المعرفة، يُطيعون اللهَ ورسوله، ويُحبون أولياءه، ويستنُّون بسنّة نبينا صلى الله عليه وسلم، ويسمعون القرآن، ويفهمون معناه، وبعضهم شاهدوا النبي ﷺ وسمعوا كلام الحق منه شِفاهاً، وخضعوا له إذعاناً، واستبشروا برَوح الله، ورَوح قضائه استبشاراً. هـ. قلتُ: ومعرفة الآدمي أكمل؛ لاعتدال بشريته وروحانيته، والجن الغالب عليه الانحراف للطافة بشريته واحتراقها.
وقوله تعالى: ﴿يهدي إلى الرُشد﴾، قال الجنيد: يهدي إلى الوصول إليَّ الله، وهو الرشد. هـ. وقال الورتجبي: يهدي إلى معدن الرشد، وهو الذات القديم. هـ. وقوله تعالى: ﴿وأنه تعالى جَدُّ ربنا... ﴾ الخ، أي: تنزهت عظمة ربنا الأزلية، عن اتخاذ الصاحبة والولد، إنما اتخاذ الصاحبة والولد من شأن عالم الحكمة، ستراً لأسرار القدرة، فافهم. وقال الجنيد: ارتفع شأنه عن أن يتخذ صاحبة أو ولداً. هـ. والشطط الذي يقوله السفيه الجاهل هو وجود السوي مع الحق تعالى، وهو أيضاً الكذب الذين ظنّت الجن أن لن يُقال على الله، ولذلك قال الشاعر:
مُذْ عَرفْتُ الإِلَهَ لَمْ أَرَ غَيْراً
وكَذّا الْغَيْرُ عندنا مَمنوعُ
وقال بعضُ العارفين: لو كُلفت أن أشهد غيره لم أستطيع، فإنه لا شيء معه حتى أشهده. هـ. وكل مَن استعاذ بغير الله فهو ضال مضل، وكل مَن أنكر النشأة الأخرى فهو تالف ملحد.