﴿وجعلنا الليلَ لباساً﴾ يستركم بظلامه، كما يستركم اللباس، شبّهه بالثياب التي تلبس، لأنه يستر عن العيون، وقيل: المراد به ما يستتر به عند النوم من اللحاف ونحوه. ﴿وجلعنا النهارَ معاشاً﴾ أي: وقت حياة تتمعشون فيه من نومكم، الذي هو أخو الموت، كقوله: ﴿وَجَعَلَ النَّهَارَ نُشُوراً﴾ [الفرقان: ٤٧] أي: تنتشرون فيه من نومكم، أو تطلبون فيه معاشكم، وتتقلبون في حوائجكم، على حذف مضاف، أي: ذا معاش.
﴿
وبنينا فوقكم سَبْعاً شِداداً﴾ أي: سبع سموات، قوية الخلق، محكمة البناء، لا يؤثّر فيها مرّ الدهور، ولا المرور والكرور. والتعبير عنها بالبناء مبني على تنزيلها منزلة القبة المضروبة على الخلق، وهو يؤيد كونها الأفلاك المحيطة. ﴿وجعلنا﴾ فيها ﴿سِراجاً وهَّاجاً﴾ أي: مضيئاً وقّاداً، أي: جامعاً للنور والحرارة، وهو الشمس، والوهَّاج: الوقّاد المتلألىء، من: وهجت النار إذا أضاءت، أو البالغ في الحرارة، من: الوهج، وهو الحر. والتعبير عنها بالسراج مناسب للتعبير عن السموات بالبناء، فالدنيا بيت وسراجه الشمس بالنهار والقمر والنجوم بالليل. والجعل هنا بمعنى الإنشاء والإبداع، كالخلق، غير أنَّ الجعل مختص بالإنشاء التكويني، وفيه معنى التقدير والتسوية.
﴿وأنزلنا من المُعْصِرات﴾ أي: السحاب إذا أعصرت، أي: شارفت أن يعصرها الرياح فتمطر، ومنه: أعصرت الجارية: إذا دنت أن تحيض، والرياح: إذا حان لها أن تعصر السحاب، وقد جاء: أنَّ الله تعالى يبعث الرياح، فتحمل الماء إلى السحاب فتعصره كما يعصر الماء من الجفافة، أي: أنزلنا من السحاب ﴿ماءً ثَجَّاجاً﴾ أي: منصباً بكثرة، يقال: ثج الدم، أي: أساله، ومنه قوله صلى الله عليه وسلم: " أفضل الحج العجّ والثج " أي: رفع الصوت بالتلبية، وصب دم الهَدْي.
﴿لنُخرج به﴾ ؛ بذلك الماء ﴿حباً﴾ يُقتات به، كالحنطة والشعير، ونحوهما ﴿ونباتاً﴾ يُعلف، كالتبن والحشيش. قال الطيبي: النبات أريد به النابت. وتقديم الحب مع تأخره في الإخراج لشرفه؛ لأنَّ غالبة قوت الإنسان. ﴿وجناتٍ﴾ ؛ بساتين، من: جنّة إذا ستره، فالجنة تطلق على ما فيه النخل والشجر المتكاثف، لأنه يستر الأرض بظل أشجاره، وقال الفراء: الجنة ما فيه النخل، والفردوس مافيه الكرم. و ﴿ألفافاً﴾ صفة، أي: ملتفّةَ الأشجار، واحدها: " لِفّ " ككِن وأكنان، أو: لَفيف، كشريف وأشراف، أو: لا واحد له، كأوْزاع وأضياف، أو جمع الجمع، فألفاف جمع " لُفّ " بالضم، و " لُفّ " ـ جمع " لَفَّاء " كخُضر وخضراء، واللِّفُ: الشجر الملتف.
قال أبو السعود: اعلم أنَّ فيما ذكر تعالى من أفعاله ـ عزّ وجل ـ دلالة على صحة البعث من ثلاثة أوجه: