الأول: باعتبار قدرته تعالى، فإنَّ مَن قَدَر على إنشاء هذه الأفعال البديعة، من غير مثالٍ يُحتَذِيه ولا قانون ينتحيه، كان على الإعادة أقدر وأقوى.
الثاني: باعتبار علمه وحكمته، فإنَّ مَن أبدع هذه المصنوعات على نمط رائع، مستتبع لغايات جليلة، ومنافع جميلة، عائدة إلى الخلق، يستحيل أن يخليها من الحكمة بالكلية، ولا يجعل لها عاقبة باقية.
والثالث: باعتبار نفس الفعل، فإنَّ في اليقظة بعد النوم أنموذجاً للبعث بعد الموت، يشاهدونها كل يوم، وكذا إخراج الحب والنبات من الأرض الميتة، يعاينونه كل حين، شاهد على إخراج الموتى من القبور بعد الفناء والدثور، كأنه قيل: ألم يفعل هذه الأفعال الآفاقية والأنفسية، الدالة بفنون الدلالات على حقيّة البعث، الموجبة للإيمان به، فما لكم تخوضون فيه إنكاراً، وتتساؤلون عنه استهزاءً؟ هـ.
الإشارة: ألم نجعل أرضَ البشرية مِهاداً للعبودية والقيام بآداب الربوبية، وجبالَ العقل أوتاداً، يسكنونها لئلا يميلها الهوى عن الاعتدال في الاستقامة وخلقناكم أزواجاً أصنافاً؛ عارفين وعلماء، وعُبَّاداً وزُهَّاداً، وصالحين وجاهلين، وعصاة وكافرين، وجعلنا نومَكم، اي: سِنَتكم عن الشهود، بالميل إلى شيء من الحس في بعض الأوقات، سُباتاً، أي: راحة للقلوب، لأنَّ دوام التجلَّي يمحقُ البشرية، وفي الأثر: " رَوِّحوا قلوبكم بشيءٍ من المباحات " أو كما قال عليه الصلاة والسلام. أو: نومَكم الحسي راحة للأبدان، لتنشط للعبادة، وجعلنا ليل القطيعة لباساً ساتراً عن الشهود، وجعلنا نهارَ العيان معاشاً؛ حياة للأرواح والأسرار، وبنينا فوقكم سبعَ مقامات شِداداً صعاباً، فإذا قطعتموها وترقيتم عنها أفضيتم إلى فضاء الشهود، وهي التوبة النصوح، والورع، والزهد، والصبر على مجاهدة النفس، وخرق عوائدها، والتوكُّل، والرضا، والتسليم، وجعلنا في قلوبكم بعد هذه المقامات سِراجاً وهّاجاً، وهي شمس العرفان لا تغرب أبداً، وأنزلنا من سماء الغيوب ماء ثجّاجاً، تحيى به الأوراح والأسرار، وهو ماء الواردات الإلهية، والعلوم اللدنية، لنُخرج به حبًّا؛ حِكماً لقوت الأرواح، ونباتاً؛ علوماً لقوت النفوس، وجنات: بساتين التوحيد، مشتملة على أشجار ثمار الأذواق وظلال التقريب.
يقول الحق جلّ جلاله: ﴿إِنَّ يومَ الفَصْلِ﴾ بين الخلائق، فيتميز المحسن من المسيء، والمحقّ من المبطل، ﴿كان﴾ في علم الله تعالى وتقديره ﴿ميقاتاً﴾ ؛ وقتاً محدوداً، ومُنتهى معلوماً لوقوع الجزاء، أو: ميعاداً لجمع الأولين والآخرين، وما يترتب عليه من الجزاء ثواباً وعقاباً، لا يكاد يتخطاه بالتقدُّم ولا بالتأخُّر، وهو ﴿يوم ينفخ في الصور﴾ نفخة ثانية، فـ " يوم " بدل من " يوم الفصل "، أو عطف بيان له، مفيد لزيادة تخفيمه وتهويله في تأخير الفصل، فإنه زمان ممتد، في مبدئه النفحة، وفي بقيته الفصل وآثاره. والصُور: القرن الذي ينفخ فيه إسرافيل. عن أبي هريرة رضي الله عنه إن رسول الله ﷺ قال: " لَمَّا خَلَقَ الله السموات والأرض خلق الصور، فأعطاه إسرافيل، فهو واضع له على فيه، شاخص ببصره إلى العرش، حتى يؤمر بالنفخ فيه، فيؤمر به، فينفخ نفخةً لا يبقى عندها في الحياة غير ما شاء الله، وذلك قوله تعالى: ﴿وَنُفِخَ فِي الصُّورِ فَصَعِقَ مَن فِي السَّماواتِ... ﴾ [الزمر: ٦٨] الآية، ثم يؤمر بأخرى، فينفخ نفخه لا يبقى معها ميت إلاَّ بُعث وقام، وذلك قوله تعالى: ﴿ثُمََّ نُفِخَ فِيهِ أُخْرَى فَإِذَا هُمْ قِيَامٌ يَنظُرُونَ﴾ [الزمر: ٦٨]. " والفاء في قوله تعالى: ﴿فَتَأْتُونَ﴾ فصيحة تفصح عن جملة حُذفت ثقةً بدلالة الحال عليها، وإيذاناً بغاية سرعة الإتيان، كما في قوله تعالى: ﴿أّنِ اضْرِب بِّعَصَاكَ الْبَحْرَ فَانفَلَقَ﴾ [الشعراء: ٦٣] أي: فتبعثون من قبوركم فتأتون عقب ذلك من غير لبث ﴿أفواجاً﴾ ؛ جماعات مختلفة الأحوال، متباينة، الأوضاع، حسب اختلاف أعمالكم وتباينها، مِن راكب، وطائر، وماش خفيف وثقيل، ومكب على وجهه، وغير ذلك من الأحوال العظيمة، أو: أمماً، كل أمة مع رسولها، كما في قوله تعالى: ﴿يَوْمَ نَدْعُواْ كُلَّ أُناَسِ بِإِمَامِهْم﴾ [الكهف: ٤٧].
﴿
وفُتِحت السماءُ﴾
أي: تشققت لنزول الملائكة، وصيغة الماضي لتحقُّق وقوعه، ﴿فكانت أبواباً﴾ ؛ فصارت ذات أبواب وطرق وفروج، وما لها اليومَ من فُروج. ﴿وسُيْرت الجبالُ﴾ في الجو على هيئتها بعد قلعها من مقارها، ﴿فكانت سَرَاباً﴾ ؛ هباءً، تخيل الشمس أنها سراب، وهَل هذا التسيير قبل البعث، فلا يقع إلاَّ على أرض قاع صفصف، وهو ما تقتضيه ظواهر الآيات، كقوله: ﴿وَيَوْمَ نُسَيِّرُ الْجِبَالَ وَتَرَى الأَرْضَ بَارِزَةً وَحَشَرْنَاهُمْ﴾ [الكهف: ٤٧] وقوله: ﴿وَحُمِلَتِ الأَرْضُ وَالْجِبَالُ فَدُكَّتَا دَكَّةً وَاحِدَةً فَيَوْمَئِذٍ وَقَعَتِ الْوَاقِعَةُ﴾ [الحاقة: ١٤، ١٥] والفاء تقتضي الترتيب، أو لا يقع إلاّ بعد البعث، وهو ظاهر الآية هنا وسورة القارعة. وهو الذي اقتصر عليه أبو السعود، قال: يُبدل اللهُ الأرض، ويُغيّر


الصفحة التالية
Icon