" الرحيم " فإنه مقتضٍ لنعمة الإمداد، وقد يصح من غيره تعالى مجازاً، فلذلك يجوز أن يُوصف العبد بالرحيم، ولا يوصف بالرحمن، ثم إنَّ الرحمة المشتمل عليها الرحمن على قسمين: رحمة ذاتية لا تُفارق الذات، ورحمة صفاتية يقع بها الإمداد للخلق، فيرحَم بها مَنْ يشاء من عباده، وتسمى الرحمة الذاتية رحمانية، ولمَّا كانت لا تُفارق الذات وقع التعبير بها في الاستواء، فقال تعالى: ﴿الرحْمنُ عَلَى الْعَرْشِ اسْتَوَى﴾ [طه: ٥]، ﴿ثُمَّ اسْتَوَى عَلَى الْعَرْشِ الرَّحْمَانُ﴾ [الفرقان: ٥٩]، وإليه أشار في الحِكَم بقوله: يا مَن استوى برحمانيته على عرشه، فصار العرش غيباً في رحمانيته... الخ.
وأما الرحمة الصفاتية، وهي التي يقع بها الإمداد، فتتنوع بتنوُّع الأسماء الحسنى، وهي تسعة وتسعون. أمّا الأسماء الجمالية فالرحمة فيها ظاهرة، وأمّا الأسماء الجلالية فالرحمة فيها: عدم انفكاك لطف الله عن قدره، والرحمة الذاتية هي المُوفية مائة، ولذلك قال صلى الله عليه وسلم: " إنّ اللهَ تعالى خَلَقَ مائةَ رحمة، أَمسك عنده تسعةً وتسعين، وأنزل واحدةً إلى الدنيا، بها يتراحم الخلقُ " الحديث، أو كما قال عليه السلام. ولمَّا كان القرآن من أجلّ النِعَم عبّر عن تعليمه بالرحمانية، التي هي من الصفات الخاصة؛ لأنّ القرآن مُظهر لأوصاف الذات وأسرارها وأفعالها، وكاشف لحقائقها، عند مَن فُتحت بصيرته.
وقوله تعالى: ﴿خَلَقَ الإِنسانَ﴾ أي: أظهره من سر اللطافة إلى مظهر الكثافة جاهلاً به من جهة الجسمانية، ثم ﴿علَّمه البيان﴾ أي: بيان السير إلى معرفته، بأن ركّب فيه العقل المميز، ونَصَبَ له مظاهر يتعرّف بها، وبعث له دالاًّ يدله، ويُعلمه أسرار الربوبية وآداب العبودية، فلا يزال يُحاذيه، ويسير به حتى يستنير قمر توحيده، وتُشرق شمس عرفانه، وإليه الإشارة بقوله: ﴿الشمس والقمر بُحسبان﴾ أي: يجريان بحسب معلوم، في زيادة نور التوحيد ونقصانه، على حسب استعداد العبد وتوجهه. قال القشيري بعد كلام: وكذلك شموس المعارف، وأقمار العلوم - في طلوعها في أوْج القلوبِ والأسرار - في حكم الله تعالى وتقديره حسابٌ معلومٌ، يُجْريهما على ما سبق به الحُكْمُ. هـ. والنجم والشجر يسجدان، أي: ونجم نور العقل الطبيعي، وشجر الفكر الاعتباري يخضعان ويضمحلان عند سطوع شمس نهار العرفان، وأمَا نور العقل الوهبي، والفكر الاستبصاري، فيطويان الكونَ طيّاً؛ لانَّ نورهما مستمد من العقل الأكبر، وهو أول الفيض الإلهي، المتدفق من بحر الجبروت، وسماء الأرواح، رَفَعَا عن لوث عالم الأشباح، وهو محل شهود أسرار الذات وأنوار الصفات، وتجليات الأنبياء والرسل، فمَن ترقّى إليه لا تغيب عنه أرواح الأنبياء وذواتهم، فالمتجلي واحد. ووضع الميزان على النفوس الظلمانية، ألاَّ تَطْغَوا في الميزان، بتعديّ حدود الرياضة والمجاهدة، وأقيموا عليها الوزن بالقسط، ولا تُخسروا
الهائل ما يقصر عنه الوصف، أو حذف اكتفاءً بما تقدّم في سورة التكوير والانفطار، أو ما دلّ عليه ﴿فملاقيه﴾ أي: إذا السماء انشقت لاقى الإنسان كدْحَهُ. والله تعالى أعلم.
الإشارة: إذا السماء، أي: سماء الأرواح انشقت عن ظلمة الأشباح انشقاق الفجر عن ظلمة الليل، فتغيب ظلمة الأشباح في نور عالَم الأرواح، فحينئذ تظهر حقائق الأشياء على ما كانت عليه في الحقيقة الأزلية، فينتفي الحدث ويبقى القِدم. قال الورتجبي: إذا أراد الله قلع الكون، يلقي على السموات والأرض أثقال هيبة عظمته وكبريائه، فتنشق السماء، وتمد الأرض من عكس تجلي عظمته وكبريائه، وحق لهما أن تتصدّعا، لِما عليهما من أثقال قهريات جبروته، حيث يشققهما، وهما طائعتان لربهما، وكيف لا تكون منهما طاعة، وهما في قبضة قهر جلاله أقل من خردلة، ألا ترى كيف قال صلى الله عليه وسلم: " الكونُ في يمين الرحمن أقلِّ من خَردلةٍ " وكذلك يتجلّى لسماء أرواح العارفين وأرض قلوب المحبين بنعت العظمة والكبرياء، فتنشق الأرواح وتزلزل القلوب من وقوع نور هيبته عليها، وبهذا الوصف وصف قلوب المقرّبين عند نزول خطاب الهيبة، قال الله تعالى: ﴿حَتَّىا إِذَا فُزِّعَ عَن قُلُوبِهِمْ... ﴾ [سبأ: ٢٣] الآية. قال بعضهم: خطاب الأمر إذا وقع على الهياكل فهي بين مطيع وعاصٍ، وخطاب الهيبة إذا وردت تفني وتُعجز الإقرار معه كقوله: ﴿إذا السماء انشقت﴾ وَرَدَ عليها صفةُ الهيبة فانشقت وأذِنَتْ لربها وأطاعت وانقادت، وحُق لها ذلك، وهو الذي أوجدها. هـ وإذا الأرض أرض البشرية مُدت، أي: بُسطت ولانت لأحكام الربوبية بالمجاهدة والرياضة، وألقت ما فيها من الخبائث والعيوب، وتخلّت عنها، وأذنت لربها في أحكام العبودية والعبادة، وحُقَّتْ بذلك؛ لأنَّ في ذلك شرفَها وعزَّها، وجواب " إذا " محذوف، أي: كان من الأسرار والأنوار والمعارف ما لا يدخل تحت دوائر العبارة، ولا تحيط به الإشارة.
يقول الحق جلّ جلاله: ﴿يا أيها الإِنسانُ﴾ خطاب الجنس ﴿إِنك كادِحٌ إِلى ربك كَدْحاً فمُلاقِيهِ﴾ أي: جاهدٌ جادٌّ في السير إلى ربك. فالكدح في اللغة: الجد والاجتهاد، أي: إنك في غاية الاجتهاد في السير إلى ربك، لأنَّ الزمان يطير طيراً وأنت في كل لحظة تقطع حظًّا من عمرك القصير، فإنك سائر مسرع إلى الموت، ثم تلاقي ربك. قال الطيبي عن الإمام: في الآية نكتة لطيفة، وهي: أنها تدل على انتهاء الكدح والتعب للمؤمن بانتهاء


الصفحة التالية
Icon