بمَخْرهن ﴿في البحر كالأعلام﴾ كالجبال الشاهقة، جمع عَلَم، وهو الجبل الطويل، ﴿فبأي آلاء ربكما تُكَذِّبان﴾ مِن خلق مواد السفن والإرشاد إلى أخذها، وكيفية تركيبها، وإجرائها في البحر، بأسباب لا يَقدر على خلقها وجمعها وترتيبها غيره سبحانه.
﴿كُلُّ مَن عليها﴾ على الأرض ﴿فانِ ويبقى وجهُ ربك﴾ أي: ذاته، قال القشيري: وفي بقائه سبحانه خَلَفُ من كلِّ تلفٍ، وتسليةٌ للمؤمنين عما يُصيبهم من المصائب، ويفوتهم من المواهب. هـ. ﴿ذو الجلال﴾ ذو العظمة والسلطان، ﴿والإِكرام﴾ أي: الفضل التام بالتجاوز والإحسان. وهذه الصفة من عظم صفات الله تعالى، وفي الحديث: " ألظوا - أي: تعلقوا - بيا ذا الجلال والإكرام " يعني: نادوه به، يُقال: ألظ بالمكان: إذا أدام به، وألظ بالدعاء: إذا لزمه، وروي أنه ﷺ مرّ برجل يُصلِّي، ويقول: يا ذا الجلال والإكرام، فقال: " قد استُجيب لك " ﴿فبأي آلاء ربكما تُكَذِّبان﴾ فإنَّ إفناءهم وإخراجهم من ضيق هذه الدار الدنية، وإحياءهم وإبقاءهم في الدار الباقية في النعيم السرمدي من عظائم النِعم.
الإشارة: اختص مظهَر الإنسان عن سائر المظاهر باعتدال خلقته، لطافةً وكثافةً، معنىً وحسّاً، روحانيّاً وبشريةٌ، فلذلك فاقت معرفته إذا عرف سائر المخلوقات، بخلاف الجن والملائكة، اللطافةُ غالبة عليهم، فمَن كان منهم عارفاً لا تجده إلا متحرفاً، غالباً عليه الهيمان والسُكْر، وأمّا الآدمي فمَن غلبت رَوحانيتُه على صلصاليته، ومعناه على حسه، كان كالملائكة أو أفضل، ومَن غلبت طينتُه على روحانيته، وحسُّه على معناه، كان كالبهائم أو أضلّ.
وقوله تعالى: ﴿رَبُّ المشرقين وربُّ المغربين﴾ أي: رب مشرق شمس العرفان وقمر الإيمان، ومغربهما عند غين الأنوار والأغيار. وقال القشيري: يُشير مشرق الروح والقلب، ومغرب النفس والهوى. هـ. فإذا أشرق نور الروح والقلب غابت ظلمة النفس والهوى، وإذا استولت ظلمة النفس والهوى على الروح والقلب غربت شمسهما، ﴿فبأي آلاء ربكما تُكَذِّبان﴾ مع ما في ذلك في اللطائف الغامضة، والغوامض الخفية، من عدم سكون الروح والقلب إلى التجلِّي الجمالي، وعدم اضطراب النفس والهوى بالتجلِّي القهري الجلالي؛ لأنَّ الكامل من هذه الطائفة هو الذي يُشاهد الجمالَ في الجلال، والجلالَ في الجمال، فلا يسكن إلى شيء، ولا يقف مع شيء.
وقوله تعالى: ﴿مَرَجَ البحرين يلتقيان﴾ يُشير إلى بحر علم الشريعة، وبحر علم الحقيقة، يلتقيان في الإنسان الكامل، ﴿بينهما برزخ﴾ وهو العقل، فإنه يحجز الشريعةَ أن
ثم عظاماً، ثم خلقاً آخر، ثم جنيناً، ثم وليداً، ثم رضيعاً، ثم فطيماً، ثم يافعاً، ثم ناشئاً، ثم مترعرعاً، ثم مزوِّراً، ثم مراهقاً، ثم محتلماً، ثم بالغاً، ثم حَمَلاً، ثم ملتحياً، ثم مستوفياً، ثم مصعَداً، ثم مجتمعاً ـ والشباب يجمع ذلك ـ ثم مَلْهوراً، ثم كهلاً، ثم أشمط، ثم شيخاً، ثم أشيب، ثم حَوْقلاً، ثم مُقتاتاً، ثم هما، ثم هرماً، ثم ميتاً. وهذا معنى قوله: ﴿لتَرْكَبُنَّ طبقاً عن طبق﴾. هـ. من الثعلبي. أو: لتركبن سنن مَن قبلكم، حالاً بعد حال.
هذا على مَن قرأ بضم الباء، وأمّا مَن قرأ بفتحها فالخطاب إمّا للإنسان المتقدم، فيجري فيه ما تقدّم، أو: للنبي صلى الله عليه وسلم، أي: لتركبَن مكابدة الكفار حالاً بعد حال، أو: لتركبَن فتح البلاد شيئاً بعد شيء، أو: لتركبَن السماوات في الإسراء، سماء بعد سماء. أو: لتركبَن أحوال أيامك، حالاً بعد حال، حال البعثه، ثم حال الدعوة، ثم حال الهجرة، ثم حال الجهاد وفتح البلاد، ثم حال الحج وتوديع العباد، ثم حال الرحيل إلى دار المقام، ثم حال الشفاعة، ثم حال المقام في دار الكرامة. فالطبق في اللغة يُطلق على الحال، كما قال الشاعر:
الصبر أجمل والدنيا مفجعةٌ
مَن ذا الذي لم يزوّر عيشه رنقا
إذا صفا لك من مسرورها طبق
أهدى لك الدهر من مكروهها طبقا
ويطلق على الجيل من الناس يكون طباق الأرض، أي: ملأها، ومنمهم قول العباس في النبي صلى الله عليه وسلم:
تَنقَّل من صَالبٍ إلى رَحمٍ
إذا مَضَى عَالَمٌ بَدَا طَبَقُ
ومحل (عن طبق) : النصب، على أنه صفة لطبق، أي: طبقاً مجاوزاً لطبق، أو: حال من الضمير في " لتركبن " أي: مجاوزين لطبق. ﴿فما لهم لا يؤمنون﴾، الفاء لترتيب ما بعدها على ما قبلها، من أحوال يوم القيامة وأهوالها، أي: إذا كان الأمر يوم القيامة كما ذكر، فأيّ شيء حصل لهم حال كونهم غير مؤمنين، أي: أيّ شيء يمنعهم من الإيمان، وقد تعاضدت موجباته؟ ﴿وإِذا قُرىءَ عليهم القرآنُ لا يسجدون﴾ ولا يخضعون، وهي أيضاً جملة حالية، نسقاً على ما قبلها، أي: أيّ: مانع لهم حال عدم سجودهم وخضوعهم واستكانتهم عند قراءة القرآن؟. قيل: قرأ النبي ﷺ ذات يوم: ﴿وَاسْجُدْ وَاقْتَرِب﴾ [العلق: ١٩] فسجد هو ومَن معه من المؤمنين، وقريش تُصَفِّق فوق رؤوسهم وتُصفِّر، فنزلت. وبه احتجّ أبو حنيفة على وجوب السجدة وعن ابن عباس: " ليس في المفصل سجدة "، وبه قال مالك. وعن أبي هريرة رضي الله عنه أنه سجد فيها، وقال: " والله ما سجدت إلاّ بعد أن رأيت النبي ﷺ سجد


الصفحة التالية
Icon