يقول الحق جلّ جلاله: ﴿ولِمَنْ خافَ مقامَ ربه﴾ أي: قيامه بين يديه للحساب ﴿يوم يقوم الناس لرب العالمين﴾ أو: قيامه تعالى على أحواله، من: قام عليه، إذا راقبه، كقوله: ﴿أَفَمَنْ هُوَ قَآئِمٌ عَلَى كُلِّ نَفْس بِمَا كَسَبَتْ﴾ [الرعد: ٣٣]. قال مجاهد: هو الرجل يهم بالمعصية، فيذكر الله تعالى، فيدعها من خوفه. قال السدي: شيئا، مفقودان: الخوف المزعج، والشوق المقلق. هـ. أي: للخائف ﴿جنتانِ﴾ أي: بستانان من الياقوت الأحمر والزبرجد الأخضر، مسيرة كل بستان: مائة سنة. وقال صلى الله عليه وسلم: " هل تدرون ما هاتان الجنتان؟ هما بستانان في بستانين، قرارهما لابث، وفرعهما ثابت، وشجرهما نابت "، أَكْرَم بهما المؤمن ليتكامل سروره بالتنقُّل لمن جنة إلى جنة، وقيل: جنة لخوفه وجنة لتركه شهوته، أو: جنة لعقيدته وجنة لعمله، أو: جنة لفعل الطاعة وجنة لتركه المعصية، أو: جنة يُثاب بها وجنة يُتفضل عليه بها، أو: روحانية وجسمانية، أو: جنة للسابقين وجنة لأهل اليمين، أو: جنة للإنس وجنة للجن؛ لأنّ الخطاب للثقلين، كأنه قيل: لكل خائف منكما جنتان. والأول أرجح، وسيأتي في الإشارة بقيته، ﴿فبأي آلاء ربكما تُكَذِّبان﴾.
ثم وصف تلك الجنتين بقوله: ﴿ذَوَاتا أفَنانٍ﴾ أغصان، جمع " فَنن "، وخصّ الأفنان لأنها هي التي تُورق، ومنها تُجنى الثمار، وتعقد الظلال، أو جمع فَنّ، بمعنى النوع، أي: ذواتا أنواع من الأشجار والثمار، مما تشتهي الأنفس وتلذّ الأعين، ﴿فبأي آلاء ربكما تُكذِّبان﴾ وليس فيها شيء يقبل التكذيب.
﴿
فيهما﴾
أي: في الجنتين ﴿عينانِ تجريان﴾ حيث شاؤوا إلى الأعالي والأسافل. وعن الحسن: تجريان بالماء الزلال، إحداهما: التسنيم، والأخرى: السلسبيل، وقيل: بالماء والخمر، ﴿فبأي آلاء ربكما تُكذِّبان﴾، ﴿فيهما من كل فاكهةٍ زوجان﴾ صنفان، صنف معروف وصنف غريب، أو رطب ويابس. ﴿فبأي آلاء ربكما تُكَذِّبان﴾.
﴿متكئينَ﴾ نصب على المدح للخائفين، أو: حال منهم؛ لأنّ مَن خاف في معنى الجمع، ﴿على فُرُش بطائنُها من إِستبرقٍ﴾ من ديباج ثخين، وحيث كانت بطائنها كذلك فما ظنك بظاهرها؟ وقيل: ظاهرها سُندس، وقيل: من نور، وقيل: لا يعلمها إلاَّ الله. والبطائن: جمع بطانة، وهو: ما يلي الأرض، والإستبرق معرَّب، ﴿وجَنَى الجنتين دانٍ﴾ أي: ما يجتنى من أشجارها من الثمار قريب، يناله القائم والقاعد والمضطجع. قال ابن عباس رضي الله عنه: تدنو الشجيرة حتى يجنيها وليُّ الله، إن شاء قائماً، وإن شاء قاعداً، وإن شاء مضطجعاً.
قال القشيري: وفي الخبر المسند: " مَن قال سبحان الله، والحمد لله، ولا إله إلا الله،
من البُعد للإيذان بعلو درجته، وبُعد منزلته في الفضل. ومحله: الرفع، وخبره: ما بعده.
﴿إِنَّ بطشَ ربك لشديدٌ﴾، البطش: الأخذ بعنف، فإذا وُصف بالشدة فقد تفاقم وتعاظم أمره. والمراد: أخذ الظلمة والجبابرة بالعذاب والانتقام، وهو استئناف، خواطب به النبي ﷺ إيذاناً بأنَّ لكفار قوهه نصيباً موفوراً من مضمونه، كما يُنبىء عنه التعرُّض لعنوان الربوبية مع الإضافة لضميره صلى الله عليه وسلم. ﴿إِنه هو يُبدىء ويُعيد﴾ أي: هو يُبدىء الخلق وهو يُعيده، من غير دخلٍ لأحد في شيء منها. ففيه مزيد تقرير لشدة بطشه، فقد دلّ باقتداره على البدء والإعادة على شدة بطشه، أو: هو يُبدىء البطش بالكفرة في الدنيا ويُعيده في الآخرة. ﴿وهو الغفورُ﴾ الساتر للعيوب، الغافر للذنوب، ﴿الودودُ﴾ المحب لأوليائه، أو: الفاعل بأهل طاعته ما يفعله الودود، من إعطائهم ما أرادوا، ﴿ذو العرش﴾ أي: خالقه ومالكه، وقيل: المراد بالعرش: المُلك، أي: ذو السلطة القاهرة ﴿المجيدُ﴾ بالجر صفة للعرش، وبالرفع صفة لذُو، أي: العظيم في ذاته، فإنه واجب الوجود، تام القدرة ﴿فعَّالٌ لما يُريد﴾ بحيث لا يتخلّف عن إرادته مراد من أفعاله تعالى وأفعال عباده، ففيه دلالة على خلق أفعال العباد، وهو خبر عن محذوف.
﴿
هل أتاك حديثُ الجنود﴾
أي: قد أتاك حديث الطاغية والأمم الخالية. وهو استفهام تشويق مقرر لشدّة بشطه تعالى بالظَلَمة العصاة، والكفرة العتاة. وكونه فعال لما يُريد مع تسليته ﷺ بأنه سيصيب قومه ﷺ ما أصاب تلك الجنود. ﴿فرعونَ وثمودَ﴾ ؛ بدل من الجنود؛ لأنَّ المراد بفرعون هو وقومه. والمراد بحديثهم: ما صدر منهم من التمادي على الكفر والضلال، وما حلّ بهم من العذاب والنكال، أي: قد أتاك حديثهم، وعرفت ما فعل بهم، فذكّر قومك ببطش الله تعالى، وحذّرهم أن يُصيبهم مثل ما أصاب أمثالهم.
﴿بل الذين كفروا في تكذيبٍ﴾، إضراب عن مماثلتهم، وبيان لكونهم أشد منهم في الكفر والطغيان، كأنه قيل: ليسوا مثلهم في ذلك، بل هم أشد منهم في استحقاق العذاب واستيجاب العقاب، فإنهم مستقرُّون في تكذيبٍ شديد للقرآن الكريم، أو كأنه قيل: ليست جنايتهم مجرد عدم التذكُّر والاتعاظ بما سمعوا من حديثهم، بل هم مع ذلك في تكذيب شديدٍ للقرآن الناطق بذلك، لكن لا أنهم يكذبون بوقوع تلك الحادثات، بل لكون ما نطق به قرآناً من عند الله تعالى مع وضوح أمره، وظهور حاله، بالبينات الباهرة. ﴿واللهُ من ورائهم محيط﴾ ؛ عالم بأحوالهم، قادر عليهم، لا يفوتونه. وهو تمثيل لعدم نجاتهم من بأس الله تعالى بعدم فوات المحاط المحيط.
﴿بل هو قرآن مجيد﴾ أي: بل هذا الذي كذّبوا به قرآن شريف عالي الطبقة في الكتب السماوية، وفي نظمه وإعجازه، وهو رد لكفرهم وإبطال لتكذيبهم، وتحقيق للحق، أي: ليس الأمر كما قالوا، بل هو كتاب شريف ﴿في لوح محفوظ﴾ من التحريف والتبديل. وقرأ نافع بالرفع صفة للقرآن، والباقي بالجر صفة للوح، أي: محفوظ من


الصفحة التالية
Icon