الجنتين الموصوفتين هنا لأهل المقام العَلي؛ وجعل جنتين وجعل جنتين دونهما لمَن كان دون ذلك، فالجنتان المذكورتان أولاً للسابقين، والمذكورتان بعد ذلك لأصحاب اليمين، حسبما ورد في الواقعة. انظر تمامه.
يقول الحق جلّ جلاله: ﴿ومِن دونهما جنتانِ﴾ أي: ومن دون تَيْنِك الجنتين الموعودتين للمقربين ﴿جنتان﴾ أخريان لِمن دونهم من أصحاب اليمين، ويؤيده حديث أبي موسى، قال في هذه الآية. ﴿ولمن خاف مقام ربه﴾ قال: " جنتان من ذهب للسابقين، وجنتان من وَرِق لأصحاب اليمين " ورَفَعه، ولا شك أنَّ الذهب أرفع من الوَرِق، فلا يلتفت إلى الفضة مَن له الذهب، خلافاً لمن قال: يلزم حرمان أهل الطبقة الأولى - وهم السابقون - ما ذكر في الحديث من الفضة، واختار في نوادر الأصول أنَّ قوله: ﴿ومن دونهما﴾ أي: في القُرب إلى العرش، وأنَّ هذه أعلى وَصْفاً مما ذكر قبلُ، إلى العرش، وبَسَطَ القول في ذلك، ومثله ذكره ابن عطية عن ابن عباس، واحتج لذلك، ولكن الأكثرعلى خلاف ذلك، وسيأتي بيانه إن شاء الله.
﴿فبأي آلاء ربكما تُكّذِبان مُدْهامَّتان﴾ خضراوان تميلان إلى السواد، من شدة الخضرة، وفيه إشعار بأنَّ الغالب على هاتين الجنتين النبات والرياحين المنبسطة على وجه الأرض، وعلى الأُوليين الأشجار والفواكه، ومَن اشتهى فيها شيئاً يُعطاه، ﴿فبأي آلاء ربكما تُكَذِّبان﴾ كرر التوبيخ مع ذكر الموصوف ومع صفته تنبيهاً على أنّ تكذيب كل من الموصوف والصفة حقيق بالإنكار، ﴿فيهما عينان نَضَّاختان﴾ فوّارتان بالماء، والنضخ أكثر من النضح - بالمهملة - وهو الرش، ﴿فبأي آلاء ربكما تُكذِّبان﴾.
﴿فيهما فاكهةُ ونخلٌ ورمانٌ﴾ عطف الأخيرين على الفاكهة عطف خاص على عام؛ لفضلهما، فإنَّ ثمر النخل فاكهة وغذاء، والرمان فاكهة ودواء. قال أبو حنيفة: مَن حَلَفَ لا يأكل فاكهة فأكل رُماناً أو رطباً لم يحنث، وقوفاً مع ظاهر العطف، وعندنا الأَيمان مبنية
يَدَيْهِ وَمِنْ خَلْفِهِ يَحْفَظُونَهُ مِنْ أَمْرِ اللَّهِ} [الرعد: ١١]، وفي الحديث عنه صلى الله عليه وسلم: " وكِّل بالمؤمن ستون ومائة ملك، يذبون عنه ما لم يُقدّر عليه، كما يذب عن قصعة العسل الذبابَ، ولو وكل المرء إلى نفسه طرفة عين لاختطفته الشياطين " ثم قرأ صلى الله عليه وسلم: ﴿إن كل نَفْس..﴾ الخ. و " ما ": صلة في قراءة من خفف، أي: إنه، أي: الأمر والشأن كل نفس لعليها حافظ.
﴿
فلينظر الإنسانُ مِمَّ خُلق﴾
، لمّا ذكر أنَّ على كل نفسٍ حافظاً، أمره بالنظر في أوّل نشأته، وبالتفكُّر فيها حق التفكُّر، حتى يتضح له أنَّ مَن قَدَر على إنشائه من موادٍ لم تشم رائحة الحياة قط، فهو قادر على إعادته، فيعمل ليوم الإعادة والجزاء ما ينفعه يومئذٍ ويُجزى به، ولا يملي على حافظه ما يُرديه، فالفاء فصيحة تُنبىء عن هذه الجُمل، أي: إذا علم أنَّ على كل إنسان حفظة يحفظونه من الآفات، أو يكتبون أعماله، خيره وشرها، دقيقها وجليلها، وأنه لم يُخلَق عبثاً، ولم يُترك سُدى، فلينظر في أول نشأته حتى يتحقق أنَّ له صانعاً، فيعبده ولا يشرك به شيئاً، ثم فسَّر أصل نشأته فقال: ﴿خُلق من ماء دافقٍ﴾، فهو استئناف بياني، كأنه قيل: مِمَّ خُلق؟ فقال: خُلق من ماء دافق، والدفق: صبٌّ فيه دفعٌ وسرعة، والدفق في الحقيقة لصاحبه، والاستناد إلى الماء مجاز، ولم يقل: من ماءين؛ لامتزاجهما في الرحم واتحادهما. ﴿يَخرج مِن بَيْنِ الصُلب والترائب﴾ أي: صُلب الرجل وترائب المرأة، وهي عِظام صدرها، حيث تكون القلادة، وقيل: العظم والعصب من الرَجل، واللحم والدم من المرأة، وقال بعض الحكماء: إنَّ النظفة تتولد من فضل الهضم الرابع، وتنفصل عن جميع الأعضاء، حتى تستعد لأنّ يتولّد منها مثل تلك الأعضاء ومقرها عروق مُلتف بعضها على بعض عند البيضتيْن، فالدماغ أعظم معونة في توليدها، ولذلك كان الإفراط في الجماع يُورث الضعف فيه، وله خليفة هو النخاع، وهو في الصلب، وفيه شُعب كثيرة نازلة إلى الترائب، وهما أقرب إلى أوعية المَني، فلذا خُصّا بالذكر، فالمعنى على هذا: يخرج من بين صلب الرجل وترائبه وصلب المرأة وترائبها، وهو الأحسن، وبه صدر ابن جزي.
﴿إِنه﴾ أي: الخالق، لدلالة " خُلِق " عليه، أي: إنَّ الذي خلق الإنسانَ ابتداء من نُطفة، ﴿على رَجْعِه﴾ ؛ على إعادته بعد موته ﴿لقادرٌ﴾ بيّن القدرة. وجِيء بـ " إنّ " واللام وتنكير الخبر ليدل على رد بليغ على مَن يدّعي أنه لا حشر ولا بعث، حتى كأنه لا تتعلق القدرة بشيء إلاَّ بإعادة الأرواح إلى الأجساد، ﴿يومَ تُبلى السرائرُ﴾ أي: تكشف ويُتصفَّح ما فيها من العقائد والنيات وغيرها، وما أخفي من الأعمال، ويتبين ما طاب منها وما خبث. والسرائر: القلوب، هو ظرف لـ " رَجْعِه "، أي: إنه لقادر على رده بالبعث في هذا


الصفحة التالية
Icon