في جانب اليمين من آدم وقت ذرَّ الذرية من صُلبه، وأصحاب المشئمة الذين كانوا في جانب شماله. هـ. قلت: وكذلك رآهم النبي - عليه الصلاة والسلام - ليلة المعراج.
﴿
والسابقون السابقون﴾ مبتدأ وخبر، على معنى تعظيم الأمر وتفخيمه؛ لأنّ المبتدأ إذا أُعيد بنفسه خبراً دلَّ على التفخيم، كقوله الشاعر:
أنا أبو النَّجْمِ وشِعْري شِعْري
والمعنى: والسابقون هم الذين اشتهرت أحوالُهم، وعُرفت محاسنهم، أو: والسابقون إلى الخيرات هم السابقون إلى الجنات، وقال أبو السعود: الذي تقتضيه جزالة النظم أنَّ " أصحاب الميمنة ": خبر مبتدأ محذوف، وكذا قوله تعالى: ﴿والسابقون﴾ فإنَّ المترقب عند بيان انقسام الناس إلى الأقسام الثلاثة بيان أنفس الأقسام، وأمّا أوصافها وأحوالها فحقها أن تُبين بعد ذلك بإسنادها إليه، والتقدير: فأحدها أصحاب الميمنة، والآخر أصحاب المشئمة، والثالث السابقون. ثم أطال الكلام في ذلك، فانظره.
واختُلف في تعيينهم، فقيل: هم الذين سبقوا إلى الإيمان، وإيضاحه، عند ظهور الحق من غير تلعْثم ولا توان، وقيل: الذين سبقوا في حيازات الفضائل والكمالات، وقيل: هم الذي صلُّوا إلى القبلتين، كما قال تعالى: ﴿وَالسَّابِقُونَ الأَوَّلُونَ مِنَ الْمُهَاجِرِينَ وَالأَنْصَارِ﴾ [التوبة: ١٠٠] وقيل: السابقون إلى الصلوات الخمس، وقيل: المسارعون في الخيرات. والتحقيق: أنهم السابقون إلى الله بالمجاهدة والمكابدة، حتى أفضوا إلى مقام المشاهدة، وهو مقام الإحسان.
﴿أولئك المقرَّبون﴾ أشار إليهم بإشارة البُعد مع قُرب العهد؛ للإيذان ببُعد منزلتهم في الفضل والشرف، أي: أولئك السابقون إلى الله هم المقربون إلى الله في الكرامة والتعظيم، الذي تلي درجاتهم درجات الأنبياء، وهم ﴿في جنات النعيم﴾ أي: ذات التنعُّم، فتَصْدق بالفردوس، التي هي مسكن المقربين، وإنما أخَّر ذكر السابقين مع كونهم أحق بالتقدُّم في الذكر؛ ليقترن ذكرهم ببيان محاسن أحوالهم، ويتخلّص إلى ذكر نعيمهم الآتي، على أنّ إيرادهم بعنوان المسبق مطلقاً مُعْرِبٌ عن إحرازهم لقصب السبق من جميع الأمور. الإشارة: إذا وقعت الحقيقة المتوقعة للمتوجهين؛ كان من العلوم والأسرار ما لا تُحيط به عامة الأفكار، ووقوع الحقيقة: برزوها معهم، وإشراق أنوارها على قلوبهم،
الله وهي الجذبة الرحمانية التي توازي عمل الثقلين. هـ. فحينئذ تصلح للدعاء إلى الله والتذكير به.
يقول الحق جلّ جلاله: ﴿فَذَكِّرْ﴾ الناسَ حسبما سَيّرناك له بما يُوحى إليك من الحق الهادي إلى الحق، واهدهم إلى ما فيه سعادتهم الأبدية، كما كنت تفعل، أي: دُم على تذكيرك. وتقييد التذكير لِمَا أنَّ رسول الله ﷺ طالما كان يُذَكرِّهم ويستفرغ جهده في وعظهم، حرصاً على إيمانهم، فما كان يزيد ذلك لبعضهم إلاَّ نفوراً، فأمر عليه السلام أن يخص الذكر بمظان النفع في الجملة، بأن يكون مَن يُذَكِّره ممن يُرجَى منه التذكُّر، ولا يتعب نفسه في تذكير مَن لا ينفعه ولا يزيده إلاّ عتوًّا ونفوراً، ممن طَبع اللهُ على قلبه، فهو كقوله: ﴿فَذَكِّرْ بِالْقُرْآنِ مَن يَخَافُ وَعِيدِ﴾ [قَ: ٤٥] وقوله تعالى: ﴿فَأَعْرِضْ عَن مَّن تَوَلَّىا عَن ذِكْرِنَا﴾ [النجم: ٢٩] وقيل المعنى: ذَكّر إن نفعت وإن لم تنفع، فحذف المقابل، كقوله: ﴿تَقِيكُمُ الْحَرَّ﴾ [النحل: ٨١]، واستبعده ابن جُزي؛ لأنَّ المقصود من الشرط استبعاد إسلامهم، كقوله: عظ زيد إن سمع منك، تريد: إن سماعه بعيد، ونسب هذا ابن عطية لبعض الحُذَّاق، قلت: الأَوْلى حمل الآية على ظاهرها، وأنه لا ينبغي الوعظ إلاّ لمَن تنفعه وتؤثر فيه، وأمّا مَن تحقّق عناده فلا يزيده إلاّ عناداً، والقرائن تكفي في ذلك.
﴿سَيَذَّكَّرُ مَن يخشى﴾ ؛ سيتعظ ويقبل التذكرة مَن يخشى الله تعالى ﴿ويَتجنَّبُها﴾ أي: يتأخر عنها ولا يحضرها ولا يقبلها ﴿الأشقى﴾ الذي سبق له الشقاء، أو: أشقى الكفرة لتوغُّله في عداوة الرسول صلى الله عليه وسلم. قيل: نزلت في الوليد بن المغيرة وعتبة بن ربيعة. ﴿الذي يَصْلَى النارَ الكبرى﴾ أي: الطبقة السفلى من طبقات جهنم، وقيل: الكبرى نار جهنم، والصغرى: نار الدنيا، لقوله عليه السلام: " ناركم هذه جزء من سبعين جزء من نار جهنم "، ﴿ثُمَّ لاَ يموتُ فِيهَا﴾ حتى يستريح ﴿ولا يحيا﴾ حياة تنفعه، و " ثم " للتراخي في مراتب الشدة؛ لأنَّ التردُّد بين الموت والحياة أفظع من الصليِّ.
﴿
قد أفلحَ﴾ أي: نجا من كل مكروه وظفر بكل ما يرجوه ﴿مَن تَزَكَّى﴾ أي: تطهّر من الكفر المعاصي بتذكيرك ووعظك، ﴿وذَكَرَ اسمَ ربه﴾ بقلبه ولسانه ﴿فصَلَّى﴾ ؛ أقام الصلوات الخمس، أو: أفلح مَن زكَّى ماله، وذكر الله في صلاته، كقوله: {وَأَقِمِ الصَّلاَةَ