فتفنى الكائنات وتضمحل الرسوم والإشارات، ويبقى الحيّ القيوم وحده، كما كان وحده، ليس لوقعتها كاذبة؛ لا كذب في وقوعها، ولا شك في إظهارها على مَن توجه إليها، وصَحِبَ أهلها، وحطّ رأسه لأربابها، وامتثل كل ما يأمرونه به، خافضة لمن توجه إليها، وَوَصَلَ لأنوارها، وتحقق بأسرارها. يعني: هكذا شأنها في الجملة، تخفض قوماً وترفع آخرين، وإنما تقع لمَن توجه إليها إذا رُجت أرض النفوس منه رجّاً، أي: تحركت واضطربت، بمنازلة الأحوال، وارتكاب الشدائد والأهوال، وتوالي الأذكار، والاضطراب في الأسفار، فإنَّ كُمون سرها في الإنسان كَكمُون الزبد في اللبن، فلا بد من مخضه لاستخراج زُبده. وبُست جبال العقل منه بسّاً، فكانت هباءً مُنبثاً؛ لأنّ نور العقل يتغطّى بنور شمس العرفان، ويضمحل كما يضمحل نور القمر إذا طلعت الشمس، وكنتم أيها الطالبون المتوجهون أصنافاً ثلاثة: قومٌ توجهوا إليها، ثم قنعوا بما برز لهم من شعاع أنوارها، وهم عامة المتوجهين. وقوم استشرفوا عليها فلم يطيقوا أنوارها، فرجعوا القهقرى، وهم أهل الحرمان، من أهل المشأمه. وقوم أدركوها، وتحققوا بها ذوقاً وكشفاً، ففنوا وبقوا، سَكروا وصحوا، وهم السابقون المقربون في جنات المعارف، ونعيم الشهود، أبداً سرمداً، جعلنا من خواصهم آمين، وسيأتي إن شاء الله في آخر السورة تحقيق الفرق بين المقربين وأصحاب اليمين.
يقول الحق جلّ جلاله: ﴿ثُلّةٌ﴾ أي: هم ثلة، أي: جماعة كثيرة ﴿من الأولين﴾ والثُلة: الأمة الكثيرة من الناس، ﴿وقليل من الآخِرين﴾ ممن يتأخر من هذه الأمة، والمعنى: أن السابقين في أول الأمة المحمدية كثير، وفي آخرها قليل، وذلك أنَّ صدر هذه الأمة كَثُر فيها خير، وظهرت فيها أنوار وأسرار، وخرج منها جهابذة من العلماء والأولياء، بخلاف آخرها، السابقون فيها قليلون بالنسبة إلى عامة أهل اليمين، ويُؤيد هذا قوله صلى الله عليه وسلم: " خير القرون قرني، ثم الذين يلونهم، ثم الذين يلونهم "، وصرّح في حديث
لِذِكْرِيا} [طه: ١٤] فيكون تفعَّل من الزكاة، أو: أفلح مَن تزكّى: أخرج زكاة الفطر، وذكر اسم ربه في طريق خروجه إلى أن يخرج الإمام، فصَلّى صلاةَ العيد، وقد روي هذا عن النبي ﷺ فتكون الآية مدنية، أو: إخباراً بما سيكون، إذ لم تُشْرَعْ زكاة الفطر، ولا صىلا العيد إلاَّ بالمدينة.
﴿بل تُؤْثِرون الحياةَ الدنيا﴾ على الآخرة، فلا تفعلون ما به تفلحون، وهو إضراب عن مُقَدَّر ينساق إليه الكلام، كأنه قيل إثر بيان ما يؤدي إلى الفلاح: فلا تفعلون ذلك بل تؤثرون اللذات العاجلة الفانية، فتسعون لتحصِيلها، وتشتغلون بذلك عن التزوُّد للأخرة، ﴿والآخرةُ خير وأبقى﴾ أي: خير في نفسها، لنفاسة نعيمها، وخلوصه من شوائب التكدير، وأدوم لا انصرام له ولا تمام. والخطاب للكفرة. بدليل قراءة الغيب، وإيثارها حينئذ: نسيانها بالكلية، والإعراض عنها، أو: للكل، فالمراد بإيثارها: هو ما لا يخلوا الناس منه غالباً، من ترجيح جانب الدنيا على الآخرة في السعي، إلاّ القليل. قال الغزالي: إيثار الحياة الدنيا طبع غالب على الإنسان، قَلَّ مَن ينفك عنه، ولذلك قال تعالى: ﴿بل تؤثرون الحياة الدنيا﴾. وجملة: ﴿والآخرة... ﴾ الخ: حال من فاعل ﴿تُؤثرون﴾ مؤكد للتوبيخ والعتاب، أي: تؤثرونها على الآخرة والحال أنها خير منها وأبقى، قال بعضهم لو كانت الدنيا من ذهب يفنى، والآخرة من طين يبقى، لكان العاقل يختار ما يبقى على ما يفنى، لا سيما والأمر بالعكس. هـ.
وقوله تعالى: ﴿إِنَّ هذا لفي الصُحف الأُولى﴾ الإشارة إلى قوله: ﴿قد أفلح مَن تزكى﴾ إلى قوله: ﴿وأبقى﴾، قال ابن جزي: الإشارة إلى ما ذكر قبلُ من الترهيب من الدنيا، والترغيب في الآخرة، أو: إلى ما تضمنته السورة، أو: إلى القرآن، والمعنى: إنه ثابت في كتب الأنبياء المتقدمين. هـ. وقوله تعالى: ﴿صحف إِبراهيمَ وموسى﴾ بدل من " الصُحف الأُولى ".
وفي حديث أبي ذر: قلت: يا رسول الله: كم كتاباً أنزل اللهُ؟ قال: " مائة كتاب وأربعة كتب، أنزل على شيث خمسين صحيفة، وعلى إدريس ثلاثين صحيفة، وعلى إبراهيم عشر صحائف، وعلى موسى قبل التوراة عشر صحائف، وأنزل التوراة والإنجيل والزبور والفرقان " قال: قلت: يا رسول الله: ما كانت صُحف إبراهيم عليه السلام؟ قال: " كانت أمثالاً كلها، أيها الملك المسل‍ّط المغرور، إني لم أبعثك لتجمع الدنيا بعضها على بعض، ولكن بعثتك لِتَرُدّ على دعوة المظلوم، فإني لا أردها ولو من كافر. وكان فيها: وعلى العاقل أن تكون له ساعات، ساعة يناجي فيها ربه، وساعة يُحاسب فيها نفسه، وساعة يُفكر في صنع الله عزّ وجل إليه، وساعة يخلو فيها لحاجته من المطعم والمشرب. وعلى العاقل ألاَّ يكون ظاعناً إلا لثلاث: تزور لمعاد، أو مرمة لمعاش، أو لذة في غير محرم. وعلى العاقل أن يكون بصيراً بزمانه، مقبلاً على شأنه، حافظاً للسانه، ومَن حسب


الصفحة التالية
Icon