صاحبها، عُرباً يعشقها وتعشقه، أتراباً، تكون على قدر حاله وفهمه وذوقه. هذا لعامة أصحاب اليمين، وهم كثيرون، سَلفاً وخَلفاً.
يقول الحق جلّ جلاله: ﴿وأصحابُ الشمال ما أصحابُ الشمال﴾ تفظيع لشأنهم، والشمال والمشأمة واحد. ﴿في سَمُوم﴾ في حرّ نار تنفذ في المسامّ، ﴿وحميم﴾ وماء حارّ، تناهي في الحرارة، ﴿وظِلٍّ من يَحْمُوم﴾ من دخان أسود بهيم، ﴿لا باردٍ﴾ كسائر الظلال، ﴿ولا كريم﴾ فيه خير مّا في الجملة، سمّاه ظلاًّ، ثم نفى عنه برد الظل ورَوْحَه ونفعَه لمَن يأوي إليه من أذى الحر، وذلك كرمه - ليمحي عنه ما في مدلول الظل من الاسترواح إليه، والمعنى: أنه ظلٌّ حار ضارّ.
﴿إِنهم كانوا قبل ذلك﴾ أي: في الدنيا ﴿مُتْرَفِينَ﴾ منعّمين بأنواع النِعَم، من المآكل والمشارب، والمساكن الطيبة، والمقامات الكريمة، منهمكين في الشهوات، فمَنَعَهم ذلك من الانزجار، وشَغَلَهم عن الاعتبار. وهو تعليل لابتلائهم بما ذكر من العذاب، ﴿وكانوا يُصِرُّون﴾ يُداومون ﴿على الحِنْثِ العظيم﴾ أي: على الذنب العظيم، وهو الشرك؛ لأنه نقض عهد الميثاق، وخروج عن طاعة الملك إلى نصر غيره. والحنث: نقض العهد الموثّق باليمين، أو: الكفر بالبعث، لقوله: ﴿وَأَقْسَمُواْ بِاللَّهِ جَهْدَ أَيْمَانِهِمْ لاَ يَبْعَثُ اللَّهُ مَن يَمُوتُ﴾ [النحل: ٣٨]، ثم صار يُطلق على مطلق الذنب، ومنه: بلغ الغلامُ الحنث، أي: وقت الحلم ووقت المؤاخذة بالذنب.
﴿وكانوا يقولون﴾ لغاية عتوهم: ﴿أئِذا مِتْنَا وكنا تراباً وعظاماً﴾ أي: إذا صارت أجزاؤنا من الجلد والعظم واللحم، بعضها تراباً، وبعضها عظاماً نخرة، نُبعث بعد ذلك؟ وتقديم التراب لعراقته في الاستبعاد وانقلابها حيواناً. والعامل في " إذا " ما دلّ عليه قوله: ﴿أئنا لمبعوثون﴾ أي: أنْبعث إذا صرنا في هذه الحالة؟ ولا يعمل فيه لفظه؛ لأنّ " إنّ " والاستفهام لا يعمل ما بعدها فيما قبلهما، ﴿أَوَ آباؤنا الأولون﴾ يُبعثون أيضاً؟ دخلت همزة الاستفهام على حرف العطف، وحسن العطف على المضمر في ﴿لمبعوثون﴾ من
أعطاها عليه من الثواب الجسيم، أو: رضيت بعملها وطاعتها لما رأت ما أداهم إليه من الكرامة والثواب، ﴿في جنةٍ عالية﴾ علو المكان أو المقدار، ﴿لا تسمع فيها لاغية﴾ أي: لغو، أو كلمة ذات لغو، أو نفسٌ لاغية، فإنَّ كلام أهل الجنة كله أذكار وحِكم، أو: لا تسمع يا مخاطَب، فيمن بناه للفاعل.
﴿فيها عين جاريةٌ﴾ أي: عيون كثيرة تجري مياهها، كقوله: ﴿عَلِمَتْ نَفْسٌ﴾ [التكوير: ١٤] أي: كل نفس، ﴿فيها سُررٌ مرفوعة﴾ رفيعة السمْك أو المقدار، ليرى المؤمن بجلوسه عليه جميع ما خوّله رَبُّه من المُلك والنعيم، ﴿وأكواب موضوعة﴾ بين أيديهم ليتلذذوا بالرؤية إليها، أو موضوعة على حافات العيون مُعَدّة للشرب، ﴿ونمارقُ﴾ ؛ وسائد ومرافق ﴿مصفوفة﴾ بعضها إلى جنب بعض، بعضها مسندة، وبعضها مطروحة، أينما أراد أن يجلس جلس على وسادة، وأستند إلى أخرى، ﴿وزرابيّ﴾ أي: بُسُط فاخرة، جمع " زِرْبيَّة "، ﴿مبثوثةٌ﴾ ؛ مبسوطة، أو مُفرّقة في المجالس.
ولمّا أنزل الله هذه الآيات، وقرأها النبي ﷺ فسّرها بأنَّ ارتفاع السرير يكون مائة فرسخ، والأكواب الموضوعة لا تدخل تحت حساب، لكثرتها، وطول النمارق كذا، وعرض الزاربيِّ كذا، أنكر المشركون ذلك، وقالوا: كيف يصعد على هذا السرير؟ وكيف تكثر الأكواب هذه الكثرة، وتطول النمارق هذا الطول، وتُبسط الزاربي هذا الانبساط، ولم نشهد ذلك في الدنيا؟ ! ذكَّرهم الله بقوله: ﴿أفلا ينظرون إِلى الإِبل كيف خُلقت﴾ طويلة عالية، ثم تبرك حتى تُركب؛ ويحمل عليها، ثم تقوم، وكذا السرير يطأطىء للمؤمن كما تطأطىء الإبل حتى يركب عليها، أو: أفلا ينظرون إلى الإبل التي هي نُصب أعينهم، يستعملونها كل حين، كيف خُلقت خلقاً بديعاً معدولاً عن سَنَن سائر الحيوانات، في عظم جثتها وشدّة قوتها، وعجيب هيئاتها اللائقة بتأتي ما يصدر منها من الأفاعيل الشاقة، كالنوْء بالأوقار الثقيلة، وحمل الأثقال الفادحة إلى الأقطار النازحة، وفي صبرها على الجوع والعطش، حتى إنَّ ضمأها ليبلغ العشْر فصاعداً، واكتفائها باليسير، ورعيها كل ما تيسّر من شوك وشجر، وانقيادها إلى كل صغير وكبير، حتى إن فأرة أخذت بزمام ناقة فجرته إلى غارها، فتبعتها الناقة إلى فم الغار. وفي الإبل خصائص أُخر تدل على كمال قدرته تعالى، كالاسترواح مع الحَدَّاء إذا عيت، إلى ما فيها من المنافع من اللحوم والألبان والأوبار والأشعار، وغير ذلك، والظاهر ما قاله الإمام، وتبعه الطيبي، من أنه احتجاج بشواهد قدرته تعالى على فاتحة السورة من مجيء الغاشية، وأنَّ المخبر بها قادر عليها، فيتوافق العقل والنقل. هـ. قاله المحشي.
﴿
وإِلى السماء كيف رُفعت﴾
رفعاً بعيداً بلا عُمُد ولا مُسَّاك، أو بحيث لا ينالها فَهم ولا إدراك، ﴿وإِلى الجبال﴾ التي ينزلون في أقطارها، وينتفعون بمياهها وأشجارها في رعي تلك الإبل وغيرها ﴿كيف نُصبت﴾ نصباً رصيناً، فهي راسخة لا تميل ولا تميد،


الصفحة التالية
Icon