غير توكيدٍ بـ " نحن " للفاصل الذي هو الهمزة، يعنون بذلك: أن بعث آبائهم أبعد في الوقوع من بعثهم. وقرئ في السبع بأو العاطفة.
ثم ردّ عليهم بقوله: ﴿قل إِنّ الأولين والآخِرين﴾ أي: إنّ الأولين من الأمم المتقدمين، الذين من جملتهم آباؤكم، والآخرين، الذين من جملتهم أنتم. وفي تقديم " الأولين " مبالغة في الرد، حيث كان إنكارهم لبعث آبائهم أشد مع مراعاة الترتيب، ﴿لمجموعون﴾ بالبعث ﴿إِلى ميقاتٍ يومٍ معلوم﴾ أي: إلى ما وقتت به الدنيا باعتبار فنائها من يوم معلوم، وهو يوم البعث والحساب، والإضافة بمعنى " من " كخاتم فضة.
﴿ثم إِنكم أيها الضالون﴾ عن الهدى ﴿المكذِّبون﴾ بالبعث، والخطاب لأهل مكة وأضرابهم، ﴿لآكلون﴾ بعد البعث والجمع ودخول جهنم ﴿مِن شجرٍ مِن زقوم﴾ " مِن " الأولى: لابتداء الغاية، والثانية: لبيان الشجر. ﴿فمالئُون منها البطونَ﴾ أي: بطونكم من شدة الجوع، ﴿فشاربون عليه﴾ عقب ذلك بلا ريث ﴿من الحميم﴾ الماء الحار. أنّث ضمير الشجر على المعنى، وذكَّره على اللفظ في " منها " و " عليه ". ﴿فشاربون شُرْبَ الهِيم﴾ وهي الإبل التي بها الهُيَام، وهو داء يُصيبها فتشرب ولا تروَى، أي: لا يكون شربكم شراباً معتاداً، بل يكون مثل شرب الإبل الهيم، واحدها: " هيماء وأَهْيَم " وحاصل الآية: أنه يُسلط عليهم من الجوع ما يضطرون إلى شرب الحميم، الذي يُقَطِّع أمعاءهم، فيشربونه شرب الهِيم، وإنما صحّ عطف الشاربين على الشاربين، وهما لذوات متّفقة، لأنَّ كونهم شاربين الحميم مع ما هو عليه من تناهي الحرارة، وقطع الأمعاء، أمر عجيب، وشربهم له على ذلك كشرب الهِيم الماء أمر عجيب أيضاً، فكانت صفتين مختلفتين.
﴿هذا نُزلُهم﴾ النُزل: هو الرزق الذي يُعدّ للنازل تكرمةً له، ﴿يَوْمَ الدَّينِ﴾ يوم الجزاء، فإذا كان نُزلهم هذا، فما ظنك بعدما استقر بهم القرار، واطمأنت بهم الدار في النار؟ وفيه من التهكُّم ما لا يخفى.
﴿نحن خلَقناكم فلولا﴾ فلاّ ﴿تُصَدِّقُونَ﴾ تحضيض على التصديق، إمَّا بالخَلق؛ لأنهم وإن كانوا مصدّقين به إلاّ أنه لمّا كان مذهبهم خلاف ما يقتضيه التصديق فكأنهم مكذّبون به، وإمّا بالعبث؛ لأنّ مَن خلَق أولاً لم يمتنع عليه أن يَخلق ثانياً.
الإشارة: أصحاب الشمال هم أهل الخذلان من العصاة والجُهال، في سَموم الجهل والبُعُد، ينفذ في مسام أرواحهم وقلوبهم، وحميم الحرص والتعب، والجزع والهلع، وظِلٍّ من يحموم، وهو التدبير والاختيار، لا بارد ولا كريم، أي: ليس كظل الرضا وبرد التسليم، بل هو ظل مشؤوم، حاجب عن شمس العيان، مُوقع في ظل الذل والطمع والهوان. إنهم كانوا قبل ذلك؛ قبل وقت وصول العارفين مُترفين متنعمين في الحظوظ، منهمكين في الشهوات، وكانوا يُصِرُّون على الحنث العظيم، وهو حب الدنيا، الذي هو
﴿وإِلى الإرض كيف سُطحت﴾ سطحاً بتوطئة وتمهيد وتسوية حسبما يقتضيه صلاح أمور ما عليها من الخلائق.
قال الجلال: وفي الآية دليل على أنَّ الأرض سطح لا كرة، كما قال أهل الهيئة، وإن لم ينقض ركناً من أركان الشرع. هـ. وفي ابن عرفة، في قوله تعالى: ﴿يُكَوِّرُ اللَّيْلَ عَلَى النَّهَارِ... ﴾ [الزمر: ٥] أنَّ الآية تدل على أنَّ السماء كروية، قال: لأنَّ من لوازم تكويرهما تكوير محلهما لاستحالة تعلقهما دون مكان. هـ. وفي الأبي: الذي عليه الأكثر من الحكماء وغيرهم أنَّ السموات والأرض كرتان. هـ.
الإشارة: وجوه يومئذ ناعمة بلذة الشهود والعيان، لأجل سعيها بالمجاهدة، راضية، حيث وصَّلتها إلى صريح المشاهدة، في جنة عالية، جنان المعارف، لا تسمع فيها لاغية؛ لأنَّ أهلها مقدّسون من اللغو والرفث، كلامهم ذكر، وصمتهم فكر، فيها عين جارية من قلوبهم بالعلوم والحِكم، فيها سُرر المقامات مرفوعة، يرتفعون منها إلى المعرفة، وأكواب موضوعة؛ كِيسَان شراب الخمرة، وهي محافل الذكر والمذاكرة، ونمارق مصفوفة، وسائد الرّوح والريحان حيث سقطت عنهم الكلف، ورموا حِملهم على الحي القيوم، وزرابي مبثوثة؛ بُسط الأنس في محل القدس، أفلا يستعملون الكفرة والنظرة، حتى تقيم أرواحهم في الحضرة، فإنَّ الفكرة سِراج القلب، فإذا ذهبت فلا إضاءة له، وهي سير القلب إلى حضرة الرب، فينظرون إلى الإبل كيف خُلقت، فإنه تجلي غريب، وإلى السماء كيف رُفعت به، وإلى الأرض كيف سُطحت من هيبته، وقال: القشيري: الإبل: النفوس الأمّارة، لقوله عليه السلام: " النّاسُ كإبلٍ مِائةٍ لا تكادُ تَجِدُ فيها رَاحِلةَ " هـ وإلى الأرواح كيف رُفعت؛ لأنها محل أفكار العارفين، وإلى جبال العقل كيف نُصبت لتمييز الحس من المعنى، والشريعة من الحقيقة، وإلى الأرض البشرية كيف سُطحت، حيث استولت عليها الروحانية، وتصرفت فيها.
يقول الحق جلّ جلاله: ﴿فَذَكِّر﴾ الناس بالأدلة العقلية والنقلية، ﴿إنما أنت مُذكِّّر﴾ ليس عليك إلاَّ التبليغ ﴿لستَ عليهم بمصيطرٍ﴾ ؛ بمسلط، كقوله: ﴿وَمَآ أَنتَ عَلَيْهِم بِجَبَّارٍ﴾ [قَ: ٤٥]، وفيه لغات: السين، وهي الأصل، والصاد، والإشمام. ﴿إِلاَّ مَن تولَّى وكَفَرَ فيعذبه اللهُ العذابَ الأكبر﴾، الاستثناء منقطع، أي: لست بمُسلط عليهم، تقهرهم على