﴿أفرأيتم الماءَ الذي تشربون﴾ أي: الماء العذب الصالح للشرب، ﴿أأنتم أنزلتموه من المُزنِ﴾ السحاب الأبيض، وهو أعذب ماءٍ، أو مطلق السحاب، واحدها " مزنة "، ﴿أم نحن المنزلون﴾ بقدرتنا، فأسكناه في الأرض، ثم أخرجناه عيوناً وأنهاراً؟ ﴿لو نشاء جعلناه أُجَاجاً﴾ أي: ملحاً، أو مُرّاً لا يُقْدَر على شربه، ﴿فلولا﴾ فهلاَّ ﴿تشكرون﴾ تحضيض على شكر الكل، وحذف اللام هنا مع إثباتها في الشرطية الأولى؛ لأنّ هذه اللام تُفيد معنى التأكيد، فأُدخلت في آية المطعوم دون المشروب؛ للدلالة على أن أمر المطعوم متقدم على أمر المشروب، وأنْ الوعيد بفقده أشد وأصعب، مِن قِبَل أنّ المشروب إنما يُحتاج إليه تبعاً للمطعوم، ولهذا قُدِّمت آية المطعوم على آية المشروب، وقيل غير ذلك في حكمة إدخالها.
﴿
أفرأيتم النارَ التي تُورون﴾ أي: تقدحونها وتستخرجونها من الزناد، والعرب كانت تقدح بعودين، تحك أحدهما على الآخر، ويُسمون الأعلى: الزند، والسفلى: الزندة، شبّهوهما بالفحل والطروقة. ﴿أأنتم أنشأتم شجرتَهَا﴾ التي بها الزناد، وهي المرْخ والعَفَار، ﴿أم نحن المنشئون﴾ الخالقون لها ابتداءً بقدرتنا؟ والتعبير عن خلقها بالنشأ، المنبئ عن بديع الصنع، المُعْرِب عن كمال القدرة والحكمة؛ لِما فيه من الغرابة الفارقة بينهما وبين سائر الأشجار، التي لا تخلو عن النار، حتى قيل: في كل شجر نار واستمجد المرخ والعَفَار، كما أنّ التعبير عن نفخ الروح بالإنشاء في قوله: ﴿ثُمَّ أَنشَأْنَاهُ خَلْقاًءَاخَرَ﴾ [المؤمنون: ١٤] كذلك.
ثم بيَّن منافعها، فقال: ﴿نحن جعلناها تذكرةً﴾ تذكيراً لنار جهنم، لينظروا إليها، ويذكروا ما وُعدوا به من نار جهنم، أو: تذكرة وأنموذجاً، لما رُوي عن النبي ﷺ أنه قال: " نارُكم هذه التي يُوقدها بنو آدم هي جزءٌ من سبعين جزءاً من حَرِّ جهنم " وقيل: تبصرة في أمر البعث؛ فإنه ليس أبدع من إخراج النار من الشيء الرطب، ﴿ومتاعاً للمُقْوين﴾ منفعة للمقوين المسافرين الذي ينزلون القِواء، وهو القفر. وفي القاموس: القِيُّ: فقر الأرض، كالِقواء - بالكسر والمد: القفر. هـ. وتخصيصهم بذلك؛ لأنهم أحوج إليها؛ فإنّ المقيمين والنازلين بقرب منازلهم ليسوا بمضطرين إلى الاقتداح بالزناد، أو: للذين خلت بطونهم ومزاودهم من الطعام، من قولهم: أَقْوت الدار: إذا خلت من ساكنها. والأول أحسن.
بدأ أولاً بنعمة الإيجاد، ثم بإمداد الطعام، ثم بالشراب، وما يُعجن به من الطعام، ثم بما يطبخ به؛ فلا يؤكل الطعام إلاّ بعد هذه الثلاث، ولا يستغني عنه الجسد ما دام حيّاً في حكم العادة.
إقسام، والمعنى: مَن كان ذا لُبٍّ عَلِمَ أنَّ ما أقسم الله به من هذه الأشياء فيه عجائب ودلائل على التوحيد والربوبية، فهو حقيق بان يُقسم به، وهذا تفخيم لشأن المقسَم بها، وكونها أموراً جليلة حقيقة بالإقسام بها لذوي العقول، وهذا كقوله تعالى: ﴿وَإِنَّهُ لَقَسَمٌ لَّوْ تَعْلَمُونَ عَظِيمٌ (٧٦) ﴾ [الواقعة: ٧٦] وتذكير الإشارة لتأويلها بما ذكر، وما فيها من معنى البُعد للإيذان ببُعد مرتبة المشار إليه، وبُعد منزلته في الشرف والفضل، ﴿لذي حِجْرٍ﴾ ؛ لذي عقل؟ سُمِّي به لأنه يحجر عن التهافت فيما لا ينبغي، كما سُمِّي عقلاْ ونُهْيَةً لأنه يعقل صاحبه وينهاه عن الرذائل؛ والمعنى: هل يحقُّ عند ذوي العقول أن تُعَظَّم هذه الأشياء بالإقسام بها؟ أو: هل في إقسامي بها إقسام لذي حجر، أي: هل هو قسم عظيم يؤكّد بمثله المقسَم عليه؟ أو: هل في القسم بهذه الأشياء قسم مُقنع لذي لُب وعقل؟ والمقسَم عليه محذوف، أي: لتهلكنّ يا معشر الكفار ثم لتبنؤن بالحساب، يدلّ عليه قوله تعالى:
﴿
ألم تَرَ كيف فعل ربُّك بعادٍ﴾ فإنه استشهاد بعلمه ﷺ بما فعل بعاد وأضرابهم المشاركين لقومه ﷺ في الطغيان والفساد، أي: ألم تعلم علماً يقيناً كيف عذَّب ربُّك عاداً ونظائرهم، فيُعذّب هؤلاء أيضاً لاشتراكهم فيما يوجبه من الكفر والمعاصي، والمراد بعاد: أولاد عادٌ بن عَوْص بن إرم بن سام بن نوح عليه السلام قوم هود عليه السلام، سُمُّوا باسم أبيهم، وقد قيل لأوائلهم: عاد الأولى، ولآخرهم عاد الآخرة، وقوله تعالى: ﴿إِرَمَ﴾ عطف بيان لعاد؛ للإيذان بأنهم عاد الأولى بتقدير مضاف، أي: سبط إرم، أو: أهل إرم، على ما قيل: من أنَّ إرم اسم بلدتهم أو أرضهم التي كانوا فيها، كقوله: ﴿وَسْئَلِ الْقَرْيَةَ﴾ [يوسف: ٨٢]، ويؤيده قراءة ابن الزبير بالإضافة، ومنعت الصرف للتعريف والتأنيث، قبيلةً، كانت أو أرضاً. وقوله تعالى: ﴿ذاتِ العماد﴾ صفة لإِرم، فإذا كانت قبيلة فالمعنى: أنهم كانوا بدويين أهل عمد، أو: طِوال الأجسام على تشبيه قدودهم بالأعمدة، وإن كانت صفة للبلدة، فالمعنى: أنها ذات عماد طِوال لخيامهم على قدر طول أجسامهم، رُوي: أنها كانت من ذهب، فلما أرسل اللهُ عليهم الريح دفنتها في التراب، أو ذات أساطين.
رُوي: أنه كان لعاد ابنان شدّاد وشديد، فمَلَكا وقَهَرا، ثم مات شديد وخلص الأمر لشدّاد، فملك الدنيا، ودانت له ملوكها، فسمع بذكر الجنة، فقال: أبني مثلها، فبنى إرم في بعض صحاري عدن في ثلاثمائة سنة، وكان عمره تسعمائة سنة، وهي مدينةٌ عظيمةٌ، قصورها من الذهب والفضة، وأساطينها من الزبرجد والياقوت، وفيها أصناف الأشجار والأنهار، ولمَّا تمَّ بناءها سار إليها بأهل مملكته، فلمّا كان منها على مسيرة يوم وليلةٍ، بعث اللهُ عليه صيحة من السماء فهلكوا، وقيل: غطتها الريح بالرمل فما غمًّا عليها. وعن عبد الله بن قلابة: أنه خرج في طلب إبل له، فوقع عليها، فحمل ما قدر عليه ممّا ثمَّ، فبلغ خبره معاوية، فاستحضره فقصَّ عليه، فبعث إلى كعب فسأله، فقال: هي إرم ذات العماد، وسيدخلها رجل من المسلمين في زمانك، أحمر أشقر، قصير، على حاجبه