ولمَّا ذكر دلائل توحيده وقدرته، أمر بتنزيهه عمَّا لا يليق بحاله؛ لأنّ العقل إذا أدرك الصانع سما إلى درك كنهه، فربما يقع في التشبيه أو التجسيم أو التعطيل، فقال: ﴿فَسَبِّح باسم ربك﴾ أي: فنزّه ربك عما لا يليق به أيها المستمع المستدل، فأراد بالاسم المسمى، والباء صلة، أي: نزَّه ربك ﴿العظيم﴾ أو: نزّه ربك ملتبساً بذكر اسمه. والعظيم: صفة للرب، أو للاسم، لأن المراد به المسمى. والله تعالى أعلم.
الإشارة: أفرأيتم أيها المشايخ ما تُمْنون من نُطف الإرادة في قلوب المريدين، أأنتم تخلقونه في قلوبهم حتى تنبت فيها بذرة الإرادة، وتهيج شجرة المحبة، فتُثمر بالمعرفة، أم نحن الخالقون؟ نحن قدّرنا بينكم الموت، فمنكم مَن يموت الموت الحسي أو المعنوي قبل الوصول، ومنكم مَن يموت بعد الوصول، والموت المعنوي: هو الرجوع عن السير، ولا يكون إلاَّ قبل الوصول، وما نحن بمسبوقين على أن نُبدل أمثالكم، ونُغيّر صفاتكم، فإنّ القلوب بيد الله، وننشئكم فيما لا تعلمون من الجهل والبُعد. ولقد علمتم النشأة الأولى، التي كنتم عليها حال الغفلة والبطالة قبل ملاقاة الرجال، أفلا تذكرون فتشكرون على نعمة اليقظة والمعرفة.
أفرأيتم ما تحرثون من الأعمال والأحوال والمجاهدات والرياضات، أأنتم تزرعونه، أي: تُنبتونه حتى يُقبل منكم، وتجنون ثماره، أم نحن الزارعون؟ لو نشاء لأبطلناه ورددناه فنجعله هباءً منثوراً، فظلتم تندمون على ما فات منكم من المشاق، حيث لم تجنوا ثمرتها، تقولون: إنّا لمغرمون، حيث افتقرنا ودفعنا أموالنا في حال الجذبة الأولى، بل نحن محرمون من ثمار مجاهدتنا وطاعتنا، أفرأيتم الماء الذي تشربون، وهو ماء الحياة الذي تحيا به القلوب، تشربونه بوسائط المشايخ، يزقّه الشيخُ لروح المريد، كما يزق الطيرُ أفراخه، وبذلك تحيا روحه، فتغيب عن عوالم حسها، أأنتم أنزلتموه من سحاب الهداية والعناية، أم نحن المنزِلون؟ لو نشاء جعلناه أُجاجاً فَتَمجه الروحُ بعد شربها، أو تمتنع من شربه، فالأول للداخلين إذا لم تسعفهم رياح المقادير، فتنكسر سفينة سيرهم بعد الركوب، والثاني للطالبين المحرومين من أرزاق المعرفة. فلولا تشكرون هذه النعم، حيث وفقكم لشرب الخمر، ودمتم حتى سكرتم وصحوتم، وحييت بها أرواحكم وأشباحكم. أفرأيتم النار نار الشهوة التي تُورون؛ تقدحونها في نفوسكم، أأنتم أنشأتم شجرتها، وهي النفس الطبيعية، أم نحن المنشئون؟ نحن جعلناها تذكرة، أي: إيقاظاً توقظ صاحبها ليتلجئ إلى مولاه، وفي الحِكَم: " وحرَّك عليك النفس ليُديم إقبالك عليه ": وجعلناها متاعاً للسائرين؛ إذ بجهادها يتحقق سيرهم، وبتصفيتها يتحقق كمالهم، وبفنائها يتحقق وصولهم، وكان شيخ شيخنا حين يشتكي له أحد له بنفسه، يقول: أما أنا فجزاها علي خيراً، ما ربحت إلاّ منها. وقال القشيري: ﴿أفرأيتم النار... ﴾ الخ، يشير إلى نار المحبة المشتعلة الموقدة،
خال، وعلى عنقه خال، يرخج في طلب إبل له، ثم التفت فأبصر ابن قلابة، فقال: هذا واللهُ ذلك الرجل. انظر الثعلبي.
﴿التي لم يُخْلَق مثلُها في البلاد﴾ أي: مثل عادٍ في قوتهم، كان الرجل منهم يحمل الصخرة، فيجعلها على الحق فيهلكهم، وطُولِ قامتهم، كان طول الرجل منهم أربعمائة ذراع، أو: لم يُخلق مثل مدينة " شدّاد " في جميع بلاد الدنيا، ذكر في القوت: أنَّ بعض الأولياء قال: دخلتُ مائة مدينة، أصغرها إرم ذات العماد، ثم قال: وقوله تعالى على هذا: ﴿لم يخلق مثلها في البلاد﴾ أي: بلاد اليمن. هـ.
﴿
وثمودَ الذين جابوا الصَّخْرَ بالوادِ﴾
أي: قطعوا صخر الجبال، واتخذوا فيها بيوتاً، قيل: أوّل مَن نحت الجبال والصخور ثمود، وبنوا ألفاً وسبعمائة مدينةٍ كلها من الحجارة، والمراد بالواد وادي القُرى، وقيل غيره. والوادي: ما بين الجبلين، وإن لم يكن فيه ماء.
﴿وفرعونَ ذي الأوتاد﴾ أي: وكيف فعل بفرعون صاحب الأوتاد، أي: الجنود الكثيرة، وصف بذلك لكثرة جنوده وخيامهم التي كانوا يضربونها في منازلهم إذا نزلوا، وقيل: كان له أوتاد يُعذّب الناسَ بها، كما فعل بآسية. ﴿الذين طَغَوا في البلاد﴾ ؛ تجاوزوا الحدّ، والموصول إمّا مجرور صفة للمذكورين، أو منصوب، أو مرفوع على الذم، أي: طغى كل طائفة منهم في بلادهم، وكذا قوله تعالى: ﴿فأكثَرُوا فيها الفسادَ﴾ بالكفر القتل والظلم، ﴿فصبَّ عليهم ربُّك﴾ أي: أنزل إنزالاً شديداً على كل طائفة من أولئك الطوائف عقب ما فعلت من الطغيان والفساد ﴿سوطَ عذابٍ﴾ أي: عذاباً شديداً لا يُدرك غايته، وهو عبارة عما حلَّ بكل واحدٍ منهم من فنون العذاب التي بُينت في سائر السور الكريمة، وتسميته سوطاً؛ للإشارة إلى أنَّ ذلك بالنسبة إلى ما أعدّ لهم في الآخرة بمنزلة السوط عند السيف، والتعبير بالصب، للإيذان بشدته وكثرته، واستمراره، أي: عُذِّبوا عذاباً دائماً مؤلماً، والعياذ بالله من أسباب المحن.
الإشارة: أقسم تعالى بأول فجر نهار الإحسان، وتمام قمر نور الإيمان، ليلة العشر، وشفعية الأثر، ووتر الوحدة، لتُسْتَأصلَن القواطع عمن توجه إليه بالصدق والإخلاص، ألم ترَ كيف فعل ربك بعاد النفس الأمّارة العاتية، الشبيهة بعاد إرم ذات العماد في العتو، التي لم يُخلق مثلُها في البلاد؛ في بلاد القواطع، إذ هي أقبح من سبعين شيطاناً، وثمود الذين جابوا الصخر بالوادي. القشيري: يشير إلى ثمود القوة الشهوانية القاطعة لصخرات الشهوات الجثمانية، وفرعون ذي الأوتاد، يُشير إلى فرعون القوة الغضبية، وكثرة تباعته، وأنواع عقوباته وتشدداته. هـ. فأكثَروا فيها الفساد، أي: مدينة القلب، فصبَّ عليهم ربك سوط عذاب بأنواع المجاهدات والرياضات، ممن أراد الله تأييده وولايته.


الصفحة التالية
Icon