ولهم أجر كريم، شهود الذات الأقدس، وهؤلاء هم الصدِّيقون المشار إليهم بقوله: ﴿والذين آمنوا بالله ورسله أولئك هم الصدّيقون﴾ فهذا الإيمان عند الصوفية مقيد، قال الورتجبي: هم الذين شاهدوا الله بالله بنعت المعرفة والمحبة، وتبعوا رسولَه بنعت المحبة والمعرفة بشرفه وفضله، والانقياد بين يدي أمره ونهيه، فأولئك هم الصدّيقون؛ لأنهم معادن الإخلاص واليقين، وتصديق الله في قوله بعد أن شاهدوه مشاهدة الصديقية، التي لا اضطراب فيها من جهة معارضة النفس والشيطان، وهم شهداء الله المقتولون بسيوف محبته، مطروحون في بحر وصلته، يَحْيون بجماله، يَشهدون على وجودهم بفنائه في الله، وبفناء الكون في عظمة الله، وهم قوم يستشرفون على هموم الخلائق بنور الله، يشهدون لهم وعليهم؛ لِصدق الفراسة؛ لأنهم أمناء الله، خصَّهم الله بالصديقية والسعادة والولاية والخلافة. هـ.
وقال القشيري: الصدّيق مَن استوى ظاهرُه وباطنُه، ويقال: هو الذي يحمل الأمرَ على الأشَق، لا يَنْزلُ إلى الرُّخَصِ، ولا يجنح إلى التأويلات، والشهداء: الذين يشهدون بقلوبهم مواطن الوصلة، ويعتكفون بأسرارهم في أوطان القُربة، ونُورهم: ما كحل الحق به بصائرهم من أنوار التوحيد. هـ.
يقول الحق جلّ جلاله: ﴿اعْلَموا أنما الحياةُ الدنيا لَعِبٌ﴾ كلعب الصبيان، ﴿وَلَهوٌ﴾ كلهو الفتيان، ﴿وزِينَةٌ﴾ كزينة النسوان، ﴿وتفاخر بينكم﴾ كتفاخر الأقران، ﴿وتكاثرٌ﴾ كتكاثر الدهقان - أي الفلاحين - ﴿في الأموال والأولاد﴾ أي: مباهاة بهما. والتكاثر: الاستكثار، والحاصل: أنها من محقرات الأمور التي لا يركن إليها العقلاء، فضلاً عن الاطمئنان بها، وأنها مع ذلك سريعة الزوال، وشيكة الاضمحلال، ولذلك قال: ﴿كَمَثَل غيثٍ أعجَبَ الكفَّارَ﴾ أي: الحُرّاث، من: كَفَرَ الحبَ: ستره، ويقال: كفرت الغمامُ النجومَ: سترتها، أي: أعجب الزراع ﴿نباتُه﴾ أي: النبات الحاصل منه، ﴿ثم يَهيجُ﴾ أي: يجف بعد خضرته ونضارته، ﴿فتراه مُصْفراً﴾ بعد ما رأيته ناضراً مونِعاً، وإنما لم يقل: ثم تراه؛ إيذاناً بأنّ اصفراره مقارن لجفافه. ﴿ثم يكون حُطاماً﴾ متفتتاً متكسراً، شبَّه حالَ الدنيا وسرعة تقضّيها مع قلة جدواها بنباتٍ أنبته الغيث، فاستوى وقوي، وأعجب به حُرّاثه، أو:
إيثار بما طلبه موسى عليه السلام بقوله: ﴿رَبِّ اشْرَحْ لِي صَدْرِي﴾ [طه: ٢٥]، وأنه بادَاه به من غير طلب، وهو قَدْر زائد على مطلق الرسالة، متضمن حمل ثقل تبليغها، لكونه في ذلك بربه، ويناسبه ما بعده من وضع الوزر، وهو لغة: الحمل الثقيل، كما في الوجيز، وشرح الصدر: بسطه بنور إلهي. هـ.
﴿ووضعنا عنك وِزْرَكَ﴾، عطف على مدلول الجملة السابقة، كأنه قيل: قد شرحنا لك صدرك ووضعنا عنك وزرك، أي: حططنا عنك عبأك الثقيل، ﴿الذي أَنْقَضَ ظهرك﴾ أي: أثقله حتى سمع له نقيض، وهو صوت الانتقاض، أي: خففنا عنك أعباء النبوة والقيام بأمرها، أو: يُراد ترك الأفضل مع إتيان الفاضل، والأنبياء يعاتبون بمثلها، ووضعه عنه: أن يغفر له. قال ابن عرفة: التفسير السالم فيه: أن يتجوّز في الوضع بمعنى الإبعاد، أو يتجوّز في الوزر، فإن أريد بالوزر حقيقته فيكون المعنى: أبعدنا عنك ما يتوهم أن يلحقك من الوزر اللاحق لنوعك، وإن أريد بالوزر المجازي، وهو ما يلحقه قِبَل النبوة من الهم والحزن بسبب جهلك ما أنت الآن عليه من الأحكام الشرعية، فيكون الوضع حقيقة، والوزر مجازاً. هـ. قلت: والظاهر: أنَّ كل مقام له ذنوب، وهو رؤية التقصير في القيام بحقوق ذلك المقام، فحسنات الأبرار سيئات المقربين، فكلما علا المقام طُولب صاحبه بشدة الأدب، فكأنه ﷺ خاف ألاّ يكون قام بحق المقام الذي أقامه الحق فيه، فاهتمّ من أجله، وجعل منه حملاً على ظهره، فأسقطه الحق تعالى عنه، وبشَّره بأنه مغفور له على الإطلاق؛ ليتخلّى من ذلك الاهتمام.
وزاده شرفاً بقوله: ﴿ورفعنا لك ذِكرك﴾ أي: نوّهنا باسمك وجعلناه شهيراً في المشارق والمغارب، ومِن رَفْعِ ذكره ﷺ أن قرن اسمَه مع اسمِه في الشهادة والأذان والإقامة والخُطب والتشهُّد، وفي مواضع من القرآن: ﴿أَطِيعُواْ اللَّهَ وَأَطِيعُواْ الرَّسُولَ﴾ [النساء: ٥٩] ﴿وَمَن يُطِعِ اللَّهَ وَرَسُولَهُ﴾ [النساء: ١٣] ﴿وَاللَّهُ وَرَسُولُهُ أَحَقُّ أَن يُرْضُوهُ﴾ [التوبة: ٦٢]، وتسميته رسول الله، ونبي الله، وقد ذكره في كتب الأولين. قال ابن عطية: رَفْعُ الذكر نعمة على الرسول، وكذا هو جميل حسن للقائمين بأمور الناس، وخمول الذكر والاسم حسن للمنفردين للعبادة. هـ. قلت: والأحسن ما قاله الشيخ المرسي رضي الله عنه: مَن أحبَّ الظهور فهو عبد الظهور، ومَن أحبّ الخفاء فهو عبد الخفاء، ومَن أحبّ الله فلا عليه أخفاه أو أظهره. هـ. والخمول للمريد أسلم، والظهور للواصل أشرف وأكمل.
ثم بشّر رسولَه وسلاَّه عما كان يلقى من أذى الكفار بقوله: ﴿فإِنَّ مَعَ العُسْرِ يُسراً﴾ أي: إنّ مع الشدة التي أنت فيها من مقاساة بلاء المشركين يُسراً بإظهاره إياك عليهم حتى تغلبهم. وقيل: كان المشركون يُعيّرون رسول الله والمسلمين بالفقر، حتى سبق إلى وهمه أنهم رَغِبُوا عن الإسلام لافتقار أهله، فذكّره ما أنعم به عليه من جلائل النعم، ثم قال:


الصفحة التالية
Icon