الاغترار بمعرفته، وهي لم تحصل. والله تعالى أعلم.
قلت: ﴿في الأرض﴾ : نعت لمصيبة، أي: كائنة في الأرض، و (في كتاب) : حال.
يقول الحق جلّ جلاله: ﴿ما أصاب من مصيبةٍ في الأرض﴾ من الجدب وآفات الزروع والفواكه، ﴿ولا في أنفُسِكُم﴾ من الأمراض والأوصاب وموت الأولاد ﴿إِلاَّ﴾ مكتوب ﴿في كتابٍ﴾ اللوح ﴿من قبل أن نبرأها﴾ أي: مِن قبل أن تخلق الأنفس أو المصائب، ﴿إِنّ ذلك على الله يسير﴾ أي: إن إثباتها في اللوح سهل على قدرته كلحظة، وكما كُتبت المصائب، كُتبت المسرات والمواهب، وقد يدلّ عليها قوله تعالى: ﴿لِكَيْلا تأسَوا﴾ أي: أخبرناكم بذلك لِكيلا تحزنوا ﴿على ما فاتكم﴾ من الدنيا حزناً يقنطكم، ﴿ولا تفرحوا﴾ فرح المختال الفخور ﴿بما آتاكم﴾ من الدنيا وسعتها، ومن العافية وصحتها، فإنَّ مَنْ عَلِمَ أنَّ الكل مقدر، يفوت ما قدر فواته، ويأتي ما قدّر إتيانه، لا محالة، لا يعظم جزعه على ما فات، ولا فرحه بما هو آت، ومع هذا كل ما ينزل بالنفس من المصائب زيادة في درجاته، وتطهير من سيئاته، ففي صحيح مسلم: أن رسول الله ﷺ قال: " ما يُصيب المسلم من وَصَبٍ، ولا نَصَب، ولا سَقَمٍ، ولا حَزَنٍ، حتى الهمَ يَهُمُّه، إلاَّ كفّر به من سيئاته " وقال أيضًا صلى الله عليه وسلم: " عجبت لقضاء الله تعالى للمؤمن: إن قضى له بالسراء رضي وكان خيراً، وإن قضى له بالضراء ورضي كان خيراً له "، وقال أيضاً: " مَا مِنْ مسلم يُشاكُ بشوكةٍ فما فوقها، إلاَّ كُتبتْ له درجةٌ، ومُحيتْ عنه بها خَطيئةٌ ". وليس أحد إلاَّ وهو يفرح بمنفعةٍ تُصيبه، ويحزن عند مضرةٍ تنزل به، لأنه طبع بشري، ولذلك كان عمر رضي الله عنه إذا أوتي بغنيمة أو خير يقول: (اللهم إنا لا نستيطع إلاَّ أن نفرح بما آتيتنا)، ولكن ينبغي أن يكون الفرح شكراً، والحزن صبراً، وإنما يُذم مِن الحزن الجزع المنافي للصبر، ومن الفرح الأشر المُطغي المُلهي عن الشكر، والمؤدّي إلى الفخر، ﴿واللهُ لا يُحب كلَّ مختال فخور﴾ فإنَّ مَن فرح بحظوظ الدنيا،
الذي ناجى موسى عليه السلام ربَّه عليه، ويُقال له: سينين وسيناء. ﴿وهذا البلد الأمين﴾ وهو مكة، شرّفها الله، وأمانتها أنها تحفظ مَن دخلها كما يحفظ الأمين ما يُؤتمن عليه. ووجه الإقسام بهاتين البقعتين المباركتين المشحونتين بخيرات الدنيا والآخرة غني عن الشرح والتبيين.
وجواب القسم: ﴿لقد خلقنا الإِنسانَ﴾ أي: جنس الإنسان ﴿في أحسن تقويمٍ﴾ أي: كائناً في أحسن ما يكون من التقويم والتعديل صورةً ومعنى، حيث جعله اللهُ مستوي القامة، متناسب الأعضاء، متصفاً بصفات البارىء تعالى من القدرة والإرادة والعلم والحياة والسمع والبصر والكلام، وهذا معنى قوله صلى الله عليه وسلم: " إنَّ الله خلق آدم على صورته "، وفي رواية: " على صورة الرحمن " على بعض الأقوال. وشرح عجائب الإنسان يطول.
﴿
ثم رددناه أسفلَ سافلين﴾ أي: جعلناه من أهل النار الذين هم أقبح من كل قبيح، وأسفل من كل سافل، لعدم جريانه على موجب ما خَلَقَه عليه من الصفات، التي لو عمل بمقتضاها لكان في أعلى عليين. وقيل: رددناه إلى أرذل العمر، وهو الهرم بعد الشباب، والضعف بعد القدرة، كقوله تعالى: ﴿وَمَن نّعَمِّرْهُ نُنَكِّسْهُ فِي الْخَلْقِ﴾ [يَس: ٦٨] أي: ثم رددناه بعد ذلك التقويم والتعديل أسفلَ مَن سفُلَ في حُسن الصورة والشكل حيث ننكسه في خلقه، فقوَّس ظهره بعد اعتداله، وابْيَضَّ شعره بعد سواده، وتكمش جلده، وكَلّ سمعه وبصره. ﴿إِلاّ الذين آمنوا وعملوا الصالحات﴾، استثناء متصل على التفسير الأول، ومنقطع على الثاني، ﴿فلهم أجرٌ غيرُ ممنونٍ﴾ أي: رددناه أسفل السافلين إلاَّ مَن آمن، أو: لكن الذين آمنوا وكانوا صالحين من الهرمى، فلهم ثواب غير منقطع، لطاعتهم وصبرهم على الشيخوخة والهرم، وعلى مقاساة المشاقّ والقيام بالعبادة، خصوصاً وقت الكبر. وعن أنس قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: " إذا بلغ المؤمن خمسين سنة خفّف الله حسابه، فإذا بلغ ستين رزقه الله الإنابة، فإذا بلغ سبعين أحبه أهل السماء، فإذا بلغ ثمانين كُتبت حسناته وتجاوز الله عن سيئاته، فإذا بلغ تسعين غُفرت ذنوبه، وشفع في أهل بيته، وكان أسير الله في أرضه، فإذا بلغ مائة ولم يعمل كتب له ما كان يعمله في صحته وشبابه ". ودخلت الفاء هنا دون سورة الانشقاق للجمع بين المعنيين هنا. قاله النسفي. والخطاب في قوله: ﴿فما يُكَذِّبُك بعدُ بالدين﴾ للإنسان، على طريقة الالتفات، أي: فما سبب تكذيبك بعد هذا البيان القاطع، والبرهان الساطع بالجزاء، والمعنى: إنَّ خلق الإنسان من نطفةٍ، وتسويته بشراً سويًّا، وتدريجه في مراتب الزيادة إلى أن يكمل ويستوي،