القلوب من الأحزان فلِما منعت من الشهود والعيان "، وقال ابن الفارض، في شان الخمرة إذا دخلت القلب:
وإِنْ خطرتْ يوماً علَى خاطرِ امرىءٍ
أقامتْ به الأفراحُ وارتحلَ الهمّ
أوحى الله تعالى إلى داود عليه السلام: " يا داود، قُل للصدِّيقين: بي فليفرحوا، وبذكري فليتنعموا " واحتجّ الغزالي بهذه الآية على أن الرزق لا يزيد بالطلب، ولا ينقص بتركه، ولو كان يزيد بالطلب وينقص بالترك لكان للأسى والفرح موضع، إذ هو قصَّر وتوانى حتى فاته، وشمَّر وجدّ حتى حصَّله، وقد قال ﷺ للسائل: " ما لك، لو لم تأتها لأتتك "، ثم أورد كون الثواب والعقاب مكتوبيْن، ويزيد بالطلب وينقص بتركه، ثم فرّق بأنّ المكتوب قسمان: قسم مكتوب مطلقاً، من غير شرط وتعليقٍ بفعل العبد، وهو الأرزاق والآجال، وقسم معلّق بفعل العبد، وهو الثواب والعقاب. هـ.
قلت: في تفريقه نظر، والحق: التفصيل في النظر، فمَن نظر لعالم الحكمة، وهو عالم التشريع، وجدهما معاً مقيدين بفعل العبد، أمّا الرزق الحسي فيأتي بسبب الفعل، إن توجه للأسباب ونقص من التقوى، وبغير سبب إن تجرّد من الأسباب، وحصل مقام التقوى؛ لقوله تعالى: ﴿وَمَن يَتَّقِ اللَّهَ يَجْعَل لَّهُ مَخْرَجاً... ﴾ [الطلاق: ٢] الآية، فالمُتَّقِي المنقطع إلى الله ناب اللهُ عنه في الفعل، ومَن نظر لعالم القدرة، وهو عالم الحقيقة، وجد الفعل كله من الله بلا واسطة ﴿لاَ يُسأل عَمَّا يَفْعَلُ وهم يُسألون﴾ وكذلك أمر الرزق المعنوي، وهو الطاعة واليقين، التي يتربت عليهما الثواب والعقاب، فمَن نظر لعالَم الحكمة وجده مقيداً بسبب العبد واجتهاده، وبها جاءت الشريعة، ومَن نظر لعالَم القدرة امتحى العبد ووجوده، فضلاً عن فعله وتسبُّبه، فتأمّله.
قوله تعالى: ﴿والله لا يُحب كل مختال فخور﴾ قال القشيري: لأنّ الاختيال من بقاء النفس، والفخر رؤية خطر ما به يفتخر. هـ. ﴿الذين يبخلون﴾ بما عندهم من الأرزاق الحسية والمعنوية، والبخل بها علامة الفرح بها، والوقوف معها، وأمّا مَن وصل إلى شهود مُعطيهما ومُجريها فلا يبخل بشيء؛ لغناه بالله عن كل شيء، ومَن يتولّ عن هذا كله، فإِنَّ الله الغني عنه وعن جميع الخلق، المحمود قبل وجود الخلق. والله تعالى أعلم.
يقول الحق جل جلاله: ﴿لقد أرسلنا رسلنا﴾ من البشر ﴿بالبينات﴾ الحُجج والمعجزات، أو: لقد أرسلنا الملائكة إلى الإنبياء، والأنبياء إلى الأمم، ويؤيده قوله تعالى: ﴿وأنزلنا معهم الكتابَ﴾ أي: جنس الكتاب الشامل للكل؛ لأنّ الكتاب من شأنه أن ينزل مع الملائكة، ويُجاب: بأن التقدير: وأنزلنا عليه الكتاب مصحوباً معهم لا تُفارقهم أحكامه، ﴿و﴾ أنزلنا ﴿الميزانَ﴾ أي: الشرع؛ لأنه عِيار الأحكام الصحيحة والفاسدة، ﴿ليقوم الناسُ بالقسط﴾ أي: العدل، وقيل المراد: الميزان الحسي. رُوي أن جبريل عليه السلام نزل بالميزان، فدفعه إلى نوح عليه السلام، وقال: " مُرْ قومَك يَزِنوا به ". ﴿وأنزلنا الحديدَ﴾ قال ابن عباس: " نزل آدم من الجنة ومعه آلة الحدادين، خمسة أشياء: السندان، والكَلْبتانِ، والمِيقَعَةُ، والمِطرقة، والإبرة ". أو: ﴿أنزلنا الحديد﴾ أخرجناه من المعادن، والمعادن تتكون من الماء النازل في الأرض، فينعقد في عروق المعادن، وقيل: المراد به السلاح.
وحاصل مضمن الآية: أرسلنا الرسلَ وأنزلنا الكتابَ، فمَن تبع طوعاً نجا، ومَن أعرض فقد أنزلنا الحديد يُحارب به حتى يستقيم كرهاً. ﴿فيه بأس شديد﴾ أي: قوة وشدة يتمنّع بها ويحارب، ﴿ومنافعُ للناس﴾ يستعملونه في أدواتهم، فلا تجد صنعة تستغني عن الحديد، ﴿وليعلم اللهُ﴾ علم ظهور ﴿مَن ينصُرُه ورسُلَه﴾ باستعمال السيوف والرماح وسائر السلاح في مجاهدة أعداء الدين، ﴿بالغيبِ﴾ غائباً عنهم في مقام الإيمان بالغيب، ﴿إِنَّ الله قويٌّ عزيزٌ﴾ فيدفع بقوته مَن يُعرض عن ملته، وينصر بعزته مَن ينصر دينه، فيقوى جأشه على الثبوت في مداحض الحرب.
قال النسفي: والمناسبة بين هذه الأشياء الثلاثة: أنّ الكتاب قانون الشريعة، ودستور الأحكام الدينية، يُبين سبيل المراشد والعهود، ويتضمن جوامع الأحكام والحدود، ويأمر بالعدل والإحسان، وينهى عن البغي والطغيان، والاجتناب عن الظلم إنما يقع بآلة بها يقع التعامل، ويحصل بها التساوي والتعادل، وهي الميزان. ومن المعلوم: أنَّ الكتاب الجامع للأوامر الإلهية، والآلة الموضوعة للتعامل بالتسوية، إنما يُحافظ العوامّ على اتباعها
إشارة إلى أنَّ ابتداء الدين كابتداء خلق الإنسان، كان ضعيفاً ثم تقوّى شيئاً فشيئاً حتى انتهى كماله.
ثم كرّر الأمر بالقراءة بقوله: ﴿اقرأْ﴾ أي: افعل ما أُمرتَ به، تأكيداً للإيجاب وتمهيداً لقوله: ﴿وربُّك الأكرمُ﴾ فإنه كلام مستأنف، وارد لإزاحة ما أظهر عليه السلام من العُذر بقوله: " ما أنا بقارىء " يريد أنّ القراءة من شأن مَن يكتب ويقرأ، وأنا أمي، فقيل له: ﴿وربك﴾ الذي أمرك بالقراءة مستعيناً باسمه هو ﴿الأكرم﴾ أي: مِن كل كريم، يُنعم على عباده بغاية النعم، ويحلم عنهم إذا عصوه، فلا يعاجلهم بالنقم، فليس وراء التكرُّم بهذه الفوائد العظيمة تكرُّم. ﴿الذي عَلَّم﴾ الكتابة ﴿بالقلم عَلَّم الإِنسانَ مَا لَمْ يعلم﴾ فدلّ على كمال كرمه بأنه علَّم عباده ما لم يعلموا، ونقلهم من ظلمة الجهل إلى نور العلم. ونبّه على فضل علم الكتابة لِما فيه من المنافع العظيمة، وما دُوّنت العلوم ولا قُيّدت الحِكم ولا ضُبِطت أخبار الأولين، ولا كُتب الله المنزّلة، إلاَّ بالكتابة، ولولا هي لما استقامت أمور الدين والدنيا، ولو لم يكن على دقيق حكمة الله تعالى دليل إلاّ أمر القلم والخطّ لكفى به وفي ذلك يقول ابن عاشر الفاسي:
لله في خلقه مِن صنعه عجبُ
كادت حقائقُ في الوجود تنقلب
كلم بعين تُرى لا الأذنُ تسمعها
خطابُها حاضر وأهلها ذهبوا
الإشارة: اقرأ بربك لتكون به في جميع أمورك، الذي أظهر الأشياء ليُعرف بها، وأظهر المظهر الأكبر ـ وهو الإنسان ـ من علقة مهينة، ثم رفعه بالعلم إلى أعلى عليين، فرفعه من حضيض النطفة الخبيثة إلى ارتفاع العلم والمعرفة، ولذلكم قال: (اقرأ وربك الأكرم) الذي تكرَّم عليك وعَلَّمَكَ ما لم تكن تعلم، الذي علَّم بالقلم، علَّم الإنسان مَا لَمْ يكن يعلم. والله تعالى أعلم.
يقول الحق جلّ جلاله: ﴿كلاَّ﴾، هو ردع لمحذوف، دلّ الكلام عليه، كأنه قيل: خلقنا الإنسان من علق، وعلّمته ما لم يعلم ليشكر تلك النعمة الجليلة، فكفر وطغى، كلا لينزجر عن ذلك ﴿إِنَّ الإِنسان ليطغى﴾ ؛ يجاوز الحد ويستكبر عن ربه. قيل: هذا إلى آخر السورة نزل في أبي جهل بعد زمان، وهو الظاهر. وقوله: ﴿أن رآه استغنى﴾ مفعول له،