صاحبه، وقرأ ابن عامر والأخوان وأبو جعفر وخلف بفتح الياء وشد الظاء بالمد، مضارع " تظاهر "، والحاصل في فعل الظهار ثلاث لغات: ظاهر وتظاهر وتظهر، مأخذة من الظهر؛ لأنه يُشَبِّه امرأته بظهر أُمه، ولا مفهوم للظهر، بل كل جزء منها مثل الظهر. وفي قوله: ﴿منكم﴾ توبيخ للعرب، لأنه كان من أيْمان الجاهلية خاصة، دون سائر الأمم، ﴿مِن نسائهم﴾ من زوجاتهم، ﴿ما هن أمهاتِهم﴾ : خبر الموصول، أي: ليسوا بأمهاتهم حقيقة، فهو كذب محض، ﴿إِنْ أمهاتُهم﴾ حقيقة ﴿إِلاّ اللائي وَلَدنَهُمْ﴾ مِن بطونهن، فلا تشبّه بهن في الحرمة إلاّ مَن ألحقها الشرع بهن من المرضعات وأزواج النبي صلى الله عليه وسلم، فيدخلن بذلك في حكم الأمهات، وأما الزوجات فأبعد شيء من الأمومة. ﴿وزُوراً﴾ كذباً باطلاً، منحرفاً عن الحق، ﴿وإنّ الله لعفوٌّ غفور﴾ لما سلف منهم.
ثم ذَكَر الحُكم بعد بيان إنكاره، فقال: ﴿والذين يَظَّهرون مِن نسائهم ثم يعودون لِما قالوا﴾ أي: والذين يقولون ذلك القول المُنكَر، ثم يعودون إلى ما قالوا بالتدارك والتلافي ورفع التضرُّر، أو: لِنقيض ما قالوا: قال ابن جزي: في معنى العود ستة أقوال: الأول: إيقاع الظِّهار في الإسلام، فالمعنى أنهم كانوا يُظاهرون في الجاهلية، فإذا فعلوه في الإسلام فذلك عود إليه، هذا قول ابن قتيبة، فتجب الكفارة عنده بنفس الظَّهار، بخلاف أقوال غيره، فإنَّ الكفارة لا تجب إلاّ بالظهار والعود معاً. القول الثاني: إنّ العود هو وطء الزوجة، رُوي ذلك عن مالك، فلا تجب الكفارة على هذا حتى يطأ، فإذا وطئها وجبت عليه الكفارة، أمسك الزوجةَ أو طلّقها، أو ماتت. الثالث: إنَّ العَوْد هو العزم على الوطء، ورُوي هذا أيضاً عن مالك، فإذا عزم على الوطء وجبت الكفارة، أمسك، أو طلَّق، أو ماتت. الرابع: إن العود هو العزم على الوطء والإمساك، وهذا أصح الروايات عن مالك. الخامس: إنه العزم على الإمساك خاصة، وهذا مذهب الشافعي، فإذا ظاهر ولم يُطَلَّقها بعد الظَّهار لزمته الكفارة. السادس: إنه تكرار الظهار مرة أخرى، وهذا مذهب الظاهرية، وهو ضعيف، لأنهم لا يرون الظَّهار موجباً حكماً في أول مرة، وإنما يُوجبه في الثانية، وإنما نزلت فيما ظاهر أول مرة، فذلك يرد عليهم، ويختلف معنى " لِما قالوه " باختلاف هذه الأقوال، فالمعنى: يعودون للوطء الذي حرَّموه، أو للعزم عليه، أو للإمساك الذي تركوه، أو للعزم عليه. هـ.
﴿
فتحريرُ رقبةٍ﴾ أي: فتداركه، أو فعليه، أو فالواجب تحرير رقبة. واشترط مالك والشافعي أن تكون مؤمنة، حملاً للمُطْلَق على المقيد؛ لأنه قيّدها في القتل بالإيمان، والفاء للسببية، ومِن فوائدها: الدلالة على تكرُّر وجوب التحرير بتكرُّر الظهار. ﴿مِن قبل أن يتماسا﴾ أي: المظاهِر والمظاهَر منها، ومذهب مالك والجمهور: أن المسّ هنا يُراد به الوطء، وما دونه من اللمس والقُبلة، فلا يجوز للمظاهِر أن يفعل شيئاً من ذلك حتى
﴿وما تَفَرَّقَ الذين أُوتوا الكتاب إِلاَّ مِن بعد ما جاءتهم البينةٌ﴾ أي: وما اختلفوا في نبوة محمد ﷺ إلاَّ مِن بعد ما عَلِموا أنه حق، فمنهم مَن أنكر حسداً، ومنهم مَن آمن. وإنّما أفرد أهل الكتاب بعدما جمع إولاً بينهم وبين المشركين؛ لأنهم كانوا على علمٍ به؛ لوجوده في كتبهم، فإذا وُصفوا بالتفرُّق عنه كان مَن لا كتاب له أدخل في هذا. وقيل: المعنى: لَمْ يَكُنِ الَّذِينَ كَفَرُوا من أهل الكتاب والمشركين منفكين، أي: منفصلين عن معرفة نبوة محمد ـ عليه الصلاة والسلام ـ حتى بعثه الله.
﴿
وما أُمروا إِلاَّ ليعبدوا اللهَ﴾ أي: ما أُمروا في التوراة والإنجيل إلاّ لأجل أن يعبدوا الله وحده من غير شرك ولا نفاق، ولكنهم حرّفوا وبدّلوا. وقيل: اللام بمعنى " أن " أي: إلاّ بأن يعبدوا الله ﴿مخلصين له الدينَ﴾ أي: جاعلين دينَهم خالصاً له تعالى، أو: جاعلين أنفسهم خالصة له في الدين. قال ابن جُزي: استدل المالكية بهذا على وجوب النية في الوضوء، وهو بعيد؛ لأنَّ الإخلاص هنا يُراد به التوحيد وترك الشرك، أو ترك الرياء. انظر كلامه، وسيأتي بعضه في الإشارة. ﴿حنفاءَ﴾ مائلين عن جميع العقائد الزائغة إلى الإسلام، ﴿ويُقيموا الصلاةَ ويُؤتوا الزكاةَ﴾ إن أريد بهما ما في شريعتهم من الصلاة والزكاة، فالأمر ظاهر، وإن أريد ما في شريعتنا فمعنى أمرهم بهما في الكتابين أمرهم بالدخول في شريعتنا، ﴿وذلك دِينُ القيِّمة﴾ أي: الملة المستقيمة. والإشارة إلى ما ذكر من عبادة الله وحده وإقَام الصَّلاةِ وإيتَاءِ الزَّكاة، وما فيه من معنى البُعد للإشعار بعُلو رتبته وبُعد منزلته.
الإشارة: لم يكن الذين جحدوا وجودَ أهل الخصوصية من العلماء والجهّال منفكين عن ذلك حتى جاءتهم الحُجة القائمة عليهم، وهو ظهور شيخ التربية خليفة الرسول، يتلو كتابَ الله العزيز على ما ينبغي، وما تَفَرَّقوا في التصديق إلاّ بعد ظهوره. وما أُمروا إلاّ بالإخلاص وتطهير سرائرهم، وهو لا يتأتى إلاّ بصُحبته. وتكلم ابنُ جزي هنا على الإخلاص، فقال: اعلم أنَّ الأعمال على ثلاثة أنواع: مأمورات ومنهيات ومباحات؛ فأمّا المأمورات فالإخلاص فيها عبارة عن: خلوص النية لوجه الله، بحيث لا يشوبها أُخرى، فإن كانت كذلك فالعمل خالص، وإن كانت لغير وجه الله من طلب منفعة دنيوية أو مدح أو غير ذلك، فالعمل رياء محض مردود، وإن كانت النية مشتركة؛ ففي ذلك تفصيل، فيه نظر واحتمال. قلت: وقد تقدّم كلام الغزالي في سورة البقرة عند قوله: ﴿لَيْسَ عَلَيْكُمْ جُنَاحٌ أَن تَبْتَغُواْ فَضْلاً مِّن رَّبِّكُمْ﴾ [البقرة: ١٩٨]، وحاصله: أنَّ الحكم للغالب وقوة الباعث. انظر لفظه.
ثم قال ابن جزي: وأمَّا المنهيات فإنْ تَرَكها دون نية خرج عن عهدتها ولم يكن له أجر في تركها، وإن تركها بنية وجه الله خرج عن عهدتها وأُجر. وأمَّا المباحات، كلأكل والشرب، والنوم والجماع وغير ذلك، فإن فَعَلَها بغير نية لم يكن له فيها أجر، وإن فَعَلَها