ومن رأى أن الأصل في الناس التفاوت قال إنهم ليسوا بعاجزين ولا قادرين، وهذا يصح فيما كان بينهم، ولكن فيما يكون من عند الله، فهم العاجزون والله تعالى على كل شيء قدير، ومن غالى استعظم أن يكون القرآن - وهو في زعمه عرض - دالاًّ على الله أو على نبوة النبي صلى الله عليه وسلم، وهب أنه ينزه اللهَ أو يجعلُ رسولَه ﷺ بهذا النحو، إلا أنه يخالف واقع التحدي الدائم، والعجز المطَّرِد من كل من خاطبهم القرآن بالتحدي (١).
ويقول الرافعي (٢) "إن القرآن معجز بالمعنى الذي يفهم من لفظ الإعجاز على إطلاقه حين يُنْفَى الإمكان بالعجز عن غير الممكن".
وحين انتقى إمكان العرب بعجزهم عن الإتيان بمثله بل عجز كل الإنس ومعهم الجن عن ذلك، حينئذ تفهم معنى إعجاز القرآن الكريم على إطلاقه.
ولا يقال: عجز فلان إلا بعد سبق، فالعرب كان لهم السبق، لم تعجزهم أمة في الإعراب والبيان، ولما نزل القرآن سبقهم. وهذا شأن الخلق دائما فإنه ليس لأحد منهم أن ينفرد بوصف ذاتي أبدا، والعرب أسبق الأمم وأبينهم فيما يعربون فلابد أن لا يكون لهم هذا التفرد، لأنه لا يتوحد بوصف إلا الواحد تعالى، فكان القرآن المقدم وصار اللسان الأقوم والأبين من العرب في الدرجة الثانية، وبعد أن كانوا في الصدارة صاروا في عربيتهم وبيانهم في تاليها.
وحق للقرآن أن يكون عربيا ما دامت العربية في درجة اللغات هي الأولى، ومع هذا تبوأ القرآن المنزلة الأولى من هذه اللغة العظمى.

(١) عن أبي هريرة عن النبي ﷺ قال: "ما بين الأنبياء نبي إلا أعطي من الآيات ما مثله آمن عليه البشر وإنما كان الذي أوتيت وحياً أو حاه الله إليّ فأرجوا أن أكون أكثرهم تابعاً يوم القيامة".
(٢) تاريخ آداب العرب جـ٢صـ١٥٦ الناشر دار الكتاب العربي بيروت - لبنان، الطبعة الرابعة ١٣٩٤هـ، ١٩٧٤م.


الصفحة التالية
Icon