فباجتماع هذه الأمور كان القرآن أبلغ وأحسن، وإن كانت عبارة العرب بليغة.
وأما التشبيه: فمن أشهر ما ذكروه فيه قول الله تعالى: ﴿وَالَّذِينَ كَفَرُوا أَعْمَالُهُمْ كَسَرَابٍ بِقِيعَةٍ يَحْسَبُهُ الظَّمْآنُ مَاءً حَتَّى إِذَا جَاءَهُ لَمْ يَجِدْهُ شَيْئاً وَوَجَدَ اللَّهَ عِنْدَهُ فَوَفَّاهُ حِسَابَهُ وَاللَّهُ سَرِيعُ الْحِسَابِ﴾ (النور: ٣٩).
ففيه إخراج مالا تقع عليه الحاسة إلى ما تقع عليه، وقد اجتمعا في بطلان المتوهم مع شده الحاجة إليه، ولو قيل في معناه: يحسبه الرائى ماءً ثم يظهر أنه على خلاف ما قدّر لكان بليغا، وأبلغ منه لفظ القرآن، لأن الظمآن أشد حرصا على تحقيق حسبانه، وتعلق قلبه به، ثم بعد هذه الخيبة حصل على الحساب الذى يصيره إلى عذاب الأبد في النار، وتشبيه أعمال الكفار بالسراب من حسن التشبيه، فكيف إذا ضمن مع ذلك حسن النظم، وعذوبة اللفظ، وكثرة الفائدة، وصحة الدلالة؟
وأما الاستعارة: فقد أوردوا فيها قول الله تعالى ﴿وَاشْتَعَلَ الرَّأْسُ شَيْباً﴾ (مريم: ٤). فأصل الاشتعال للنار، لكنه في هذا الموضع أبلغ، وحقيقته كثرة الشيب في الرأس، إلا أن الكثرة لما كانت تتزايد تزايداً سريعا صارت في الانتشار والإسراع كاشتعال النار، وله موضع في البلاغة عجيب، وذلك أن انتشار الشيب في الرأس لا يتلافى كاشتعال النار (١).
ويعد الباقلانى كذلك من أبرز من سلكوا هذا الباب في الموازنة بين ما ورد في القرآن من ضروب البلاغة وبين أبلغ ما حفظ عن العرب من ذلك

(١) للمزيد من ذلك يراجع (النكت في إعجاز القرآن) للرماني، ضمن ثلاث رسائل في إعجاز القرآن: ص ٧٦ وما بعدها.


الصفحة التالية
Icon