بل كان القرآن هو السبب لظهورها، وتدوينها، واشتغال الناس بها، وجعلها أساس العلوم؛ إذ يحكى أنَّ زياداً لما ولي العراق لمعاوية رضي الله عنه بعث إلى أبي الأسود (ظالم بن عمرو) الدُّؤلي وقال له: اعمل شيئاً تكون فيه إماماً، تُعْرِبُ به كتابَ الله تعالى، وينتفع الناس به، فاستعفاه من ذلك، حتّى سمع رجلاً يقرأ " أنّ الله بريء من المشركين ورسوله" بكسر اللام، فقال: ما ظننت أمر الناسِ صار إلى هذا، أو لا أظن يَسَعُني إلاّ أنْ أضَعَ شيئاً أُصْلِحُ به نحو هذا، أو كلام هذا معناه، فوضع النحو" (١). "فجاء أبو الأسود إلى زيادٍ، فقال له: أبْغِني كاتباً يفهمُ عَنِّي ما أقول، فجيء برجُلٍ من عبد القيس، فلم يَرْض فهمه، فأُتِيَ بآخر من قريش، فقال له: إذا رأيتني قد فتحتُ فمي بالحرف، فانقط نُقْطةً على أعلاه، وإذا ضَمَمْتُ فمي فانقط نقطةً بين يدي الحرف، وإذا كسَرْتُ فمي فاجْعَلِ النقطة تحت الحرف، فإنْ أتْبعْتُ شيئاً من ذلك غُنَّةً، فاجْعَلِ النقطة نقطتين، ففَعَل، فهذا نقط أبي الأسود" (٢).
وكان علماءُ العربيّة الأوائل يجمعون إلى علم العربيّة علماً أو أكثر من علوم القرآن، من قراءة، أو تفسير، أو غير ذلك، فقد " أخذ عبد الله ابن أبي إسحاق عن يحيى بن يعمر القراءة، وأخذها عن نصر بن عاصم" (٣). وكان أبو عمرو بن العلاء إماماً في العربيّة والقراءة، حتّى "قال شعبة لعليّ بن نصر
(٢) أبو الطيب مراتب النحويين ص ٢٩، وانظر المعرّي تاريخ العلماء النحويّين ص ١٦٧.
(٣) انظر أبو الطيب مراتب النحويين ص ٣٢.