هاماتهم، وعدوا القرآن نموذجاً أعلى للبيان العربيّ، فأقبلوا عليه يبحثون عن وجوه بيانه، وأسرار إعجازه، ممّا كان سبباً في نشأة علوم العربيّة.
إنّه لولا القرآن، ولولا الإسلام لم يكن هناك عربيّةٌ كما نرى، أو لبقيَتْ العربيَّةُ لغة فئةٍ معزولةٍ عن العالم، تعيش في صحرائها، يزهد فيها العالم، ويرغب عنها إلى غيرها، غير أنَّ الإسلام نقل العربيّة إلى بُؤْرة الاهتمام العالميّ، وجعل لها الصدارة، اهتماماً، وتعلّماً، يطلبها العربيُّ وغَيْره، ويغار عليها كل مسلم، ويتمنّى أن يتقنها كُلّ مُصَلٍّ، ذلك أنّها تحلّ في قلبِ كلّ مسلم في أعلى مكانٍ منه، وهي أجلّ وأكبر لديه من كل لسانٍ، وكل لغة.
دخل الناس في الإسلام، وانقادوا له راغبين أو خاضعين، فتعلّموا لسانه، ورأوا أنه لا يتمُّ لهم دينٌ إلاّ بلغته، فبادروا إلى خدمتها، والعنايةَ بها، كما بادروا إلى حفظ القرآن والسُّنَّة، ودرس التفسير والحديث، ومعرفة أصول الدين والفقه، بل جعلوا اللسان العربيّ بوّابة إلى هذه العلوم،
لا يولج إليها إلاّ به، بل نسي كثيرٌ أن له لغةً غير العربيّة، وانصرف فكره إليها، حتّى إنّ بعضهم ما كان يطيب له أن يذكر لغته الأولى وقد أكرمه الله باللسان العربي، فضلاً عن أن يقارن تلك اللغة بلسانه الجديد.
وفرغت فئاتٌ من المسلمين من غير العرب، من الموالي لخدمة اللسان العربيّ في مستوياته المختلفة: الصوتيّ، والصرفي، والتركيبي، والدلاليّ، لم يقتصر أمره على ما ورد به استعمال القرآن أو السُّنَّة، بل جاوزه إلى جمع اللغة، وإحصاء شاردها ونادرها، وحصر غريبها وشاذّها، في جهدٍ لم يتحقّق للغةِ من اللُّغاتِ، وعملٍ لم يحظ به لسانٌ من الأَلْسِنةِ، حتّى رأينا من مصنّفات العربية الشيء العجاب، ألّفه أو اكتتبه قومٌ ليسوا من أهلها نسباً، ولكنهم منهم ولاءً وحُبّاً.