أقبلت الأمّة على كتاب ربّها، وأكبّت عليه حفظاً، ودرساً، وفهماً لمعانيه، وتقيُّداً بأحكامه، وميزاً لألفاظه ومبانيه، ومعرفة لطرائق رسمه، وإسناد قراءاته، وكان لعلماء العربيّة اليدُ الطولى في خدمة القرآن، في ميادين متنوّعة، في رسمه وضبطه، ومعانيه وقراءاته، وأبنيته وألفاظه، وبلاغته وإعجازه، بل لا أبالِغُ إذا قلتُ: إنّ علوم العربية لولا القرآن ما كانت، ولا كان للعربية شأن، ولبقيت محصورةً في صحرائها القاحلة، وجزيرتها العازبة عن حياة الحضارة والمدنيّة، ولبقي أهلها على شائهم ونَعَمِهم، يتتبعون من أجلها مواقع القطر، ومنازِلَ الغيث، ويعنون بما يرتبط بهذه الحياة البسيطة، من علمٍ بالأنواء والمنازل، والأفلاك والأبراج، والريح وأوقات هبوبها، لا يجوزون هذا إلاّ إلى معرفة أنسابهم، والفخر بأحسابهم، والتمدّح بفعالهم، وإلا قول الشعر، وارتجال الخطب، وحفظ ما استجادوا من ذلك، وإلاّ نُتفاً من حِكَمٍ وأمثالٍ، تهديهم إليها تجاربهم في الحياة، لا هَمَّ لهم وراء ذلك، ليلٌ ينجلي، ونهارٌ يتجلَّى:
"ليلٌ يكرُّ عليهم ونهارُ"
في دورةٍ فلكيّة مكرورةٍ، فسبحان من غيَّر هذه الأُمَّة لتكون كما قال ابن فارسٍ: " كانت العربُ في جاهليتها على إرثٍ من إرثِ آبائهم في لغاتهم، وآدابهم، ونسائكهم، وقرابينهم، فلمّا جاء الله (جلَّ ثناؤه) بالإسلام حالتْ أحوالٌ، ونُسِخَتْ دياناتٌ، وأُبْطِلت أمورٌ، ونُقِلَتْ من اللُّغة ألفاظٌ عن مواضع إلى مواضع أخر، بِزياداتٍ زيدتْ، وشرائع شُرِعَتْ، وشرائط شُرِطت، فعفَّى الآخِرُ الأوّلَ، وشُغِل القوم - بعد المغاورات والتجاراتِ، وتطلّب الأرباح، والكدح للمعاشِ في رحلة الشتاء والصّيف، وبعد الإغرام بالصيد