ومن مظاهر فصل اللُّغة عن قرآنها أن يدَّعيَ بعض الكُتَّاب أنّ اللُّغةَ إنّما حُفِظَتْ لا بسببِ ارتباطها بالقرآن، ولكن بسبب انكفائها على نفسها وانغلاق أهلها، كما هو الحال في اللُّغة الصينية، كما يقولون، وقد غاب عن هذا وأضرابه "أَنَّ العربيّة بنيت على أصل سحريّ، يجعل شبابها خالداً عليها، فلا تهرم، ولا تموتُ؛ لأنّها أُعِدَّتْ من الأزل فلكاً دائراً للنيِّرين الأرضيّين العظيمين، كتاب الله وسنة رسول الله ﷺ ومن ثمَّ كانت فيها قُوَّة عجيبة من الاستهواء كأنّها أخذةُ السحر، لا يملك معها البليغ أن يأخذ أو يدع" (١).
ويزعم هؤلاء أنّ البلاغة يمكن أن تكون بمعزلٍ عن القرآن، وأن الفصاحة يمكن اكتسابها من غير القرآن، وهذا ما لم يقل به أحد من قبل، وليأتنا هؤلاء بواحدٍ استطاع بمعزلٍ عن القرآن، وما كان على نمطه من الكلام جزالةً وقُوَّةً، وحلاوةً وطلاوةً أن يجعل من نفسِه أديباً ذا بيانٍ ولسان.
والغَضُّ من قدر العربيّة، والنيل من مكانتها، وأنّها ضرورة لكلِّ علمٍ شرعيّ، ليس بِدْعاً عصريّاً، بل أشار الزمخشري إلى بعض منتحليه، وردَّ عليهم فقال: "... وذلك أنّهم لا يجدون علماً من العلوم الإسلاميّة، فقه؟وكلامها، وعلمي تفسيرها وأخبارها إلاّ وافتقاره إلى العربيّة بَيِّنٌ لا يُدْفَعُ، ومكشوفٌ لا يتقنَّعُ، ويرون الكلامَ في معظم أبواب أصول الفقه، ومسائلها مبنيّاً على علم الإعراب، والتفاسير مشحونةً بالرِّوايات عن سيبويه، والأخفش، والكسائيّ، والفرّاء، وغيرهم من النحويّين البصريّين والكوفيّين، والاستظهار في مآخذ النّصوص بأقاويلهم، والتّشبُّث بأهداب فسرهم،

(١) الرافعي، تحت راية القرآن ص ٣١.


الصفحة التالية
Icon