ولا يقال: إن زيد بن ثابت خرق هذه القاعدة، حيث اكتفى في إثبات آخر سورة التوبة بشهادة أبي خزيمة الأنصاري وحده، وليس بشهادة اثنين، فقد اجتمع فيها زيد بن ثابت نفسه، وعمر بن الخطاب -رضي الله عنه.
روى ابن أبي داود بسنده عن عبد الله بن الزبير، قال: "أتى الحارث بن خزيمة بهاتين الآيتين من آخر سورة براءة فقال: أشهد أني سمعتهما من رسول الله -صلى الله عليه وسلم- ووعيتهما. فقال عمر: وأنا أشهد لقد سمعتهما"١.
والسبب في اختيار زيد بن ثابت -رضي الله عنه- لهذه المهمة الخطيرة: ما جاء في رواية البخاري السابقة، من قول أبي بكر -رضي الله عنه- لزيد: "إنك رجل شاب عاقل، لا نتهمك، وقد كنت تكتب الوحي لرسول الله -صلى الله عليه وسلم".
فهذه المؤهلات: من كونه شابا، فيكون أقدر على العمل، وهو عمل شاق، وكونه عاقلا، فيكون أوعى، وكونه غير متهم، فتركن النفس إليه، وكونه كان يكتب الوحي لرسول الله -صلى الله عليه وسلم- فيكون أكثر ممارسة... وهذه هي الصفات التي جعلته يكون على رأس القائمين بهذ العمل في نسخ المصاحف في خلافة عثمان بن عفان -رضي الله عنه- كما سيأتي٢.
وقد استغرق هذا العمل الجليل ما يقرب من سنة، ما بين واقعة اليمامة التي وقعت في الأشهر الأخيرة من السنة الحادية عشرة للهجرة، أو الأشهر الأولى من السنة الثانية عشرة، وبين وفاة أبي بكر -رضي الله عنه- في جمادى الآخرة سنة ثلاث عشرة من الهجرة النبوية، وكان ذلك قبل وفاته بقليل، إذ إن الروايات تشير إلى أن الصحف التي جمع فيها القرآن أودعت عنده بقية حياته، ثم انتقلت -بعد ذلك- إلى عمر بن الخطاب، ثم إلى السيدة حفصة بنت عمر -رضي الله عنهما- بعد وفاة والدها، وظلت عندها إلى أن أخذها عثمان بن عفان -رضي الله عنه- لنسخ المصاحف منها -كما سيأتي٣.
٢ انظر: فتح الباري "١٠/ ٣٨٧"، رسم المصحف للدكتور غانم قدوري ص١٠٤ ط العراق.
٣ انظر: تاريخ الطبري "٣/ ٤١٩"، البرهان للزركشي "١/ ٢٣٨".