واستعمال الزيارة بهذا المعنى، صريح الإيحاء بأن الإقامة في القبر ليست إقامة دائمة، وإنما نحن فيها زائرون، والزائر غير مقيم، وسوف تنتهي الزيارة حتماً إلى بعث وحساب وجزاء. وهذا الإيحاء ينفرد به لفظ ﴿زُرْتُمُ﴾ دون غيره، فلا يمكن أن يؤديه لفظ آخر، كأن يقال صرتم، أو رجعتم أو انتهيتم، أو أبتم وألتم، وليس القبر المصير والمرجع والمآب والمال. كما لا يقال: سكنتم في المقابر، أو أقمتم بها، إلى غير ذلك من ألفاظ تشرك كلها في الدلالة على ضجعة القبر، ولكن يعوزها سر التعبير الدال على أنها زيارة، اي إقامة مؤقتة، يعقبها بعث ونشور.
وليس بعجيب أن يفوت هذا السر البياني مفسرين كان جهدهم أن يجمعوا كل ما يمكن أن تحتمله الدلالات المعجمية لزيارة المقابر، وشتى المرويات في تأويلها.
حتى الذين فسروا الزيارة بالموت هنا. لم يلتفتوا إلى سره البياني. وهو ما لم يفت أعرابياً سمع ألاية فقال: "بعث القوم للقيامة ورب الكعبة، فإن الزائر منصرف لا مقيم" وروى كذلك هن "عمر بن عبد العزيز" نحو من قول الأعرابي.
والعجيب أن "أبا حيان" لم تستوقفه هذه اللمحة الثاقبة من كلمة قالها أعرابي حسس لغته فطرة وسليقة، بل مر أبو حيان بها سريعاً كأن لم يعنه منها شيء، ليأتي بقول من قال في تفسير الاية: "إنه تأنيب على الإكثار من زيارة القبور تكثراً بمن سلف وإشادة بذكره، وكان الرسول - ﷺ - نهى عن زيارة القبور ثم قال: فزوروها، أمر إباحة للاتعاظ لا لمعنى المباهاة والتفاخر".
* * *
ولفظ "المقابر" لم يأت في غير آية التكاثر، على حين جاءت "القبور" خمس مرات، كما جاء القبر، مفرداً، في آية التوبة ٨٤: