مقصوداً إلى تفخيم أمره بالقسم، خص الليالي التي يظهر فيها ضوء القمر مع تغلب الظلام فيها بعشر فقط، وإلا فقد يكون ظلام في أكثر من عشر من الشهر لكن زمنه قليل لا يليق ذكره بمقام التفخيم! وفي الفجر تفريجه كربه الليل من جهة، وتنبيه العامل إلى استقبال عمله من جهة أخرى، وفي ليالي القمر واستمالتها الأنفس للسمر وتيسير السير في السفر، ثم في قصر بقاء القمر وانتظار هجوم الظلمة وابتغاء الغنيمة (؟) مع الاستعداد للسكون عندما يرخى الليل ستاره، في كل ذلك رغبات للنفس ورهبات، وللهواجس غدوات وروحات، وللأماني فيه دبيب ووثبات، فهو جدير بأن يقسم به".
ولا يخفي ما في هذا التأويل من بعد التكلف وعسر الملحظ، وإلا فالعشر الوسطى من الشهر القمري أسنى وأبهى وأقوى استمالة للسمر! وإذا كانت قلة الظلام مما لا يليق ذكره بمقام التفخيم، فكيف يليق معهذكر الفجر تفخيماً له بما يخفف من كربة الظلام وما ينسخ من آية الليل! وفي أقسام القرآن قسم بالصبح إذا تنفس، وبالضحى وبالنهار إذا تجلى، كما فيها قسم بالليل إذا سجى وإذا عسعس، وإذا وقب، وإذا يغشى، وإذا أدبر!؟
ونعود فنقول إن مثل هذا القسم بالواو في القرآن الكريم ظاهرة أسلوبية عدل فيها البيان القرآني بالقسم عن أصل استعماله الأول للتعظيم، لملحظ بلاغي هو اللفت بالواو إلى واقع حسي مدرك لا مجال للمهاراة فيه، توطئة للإقناع بما هو موضع جدل أو ارتياب، من المعوويات والغيبيات غير المدركة.
وقد سبق بيان لهذه الظاهرة فيما تناولنا من سور الضحى والعاديات والنازعات في الجزء الأول، ثم في سورتى العصر والليل هنا. ونعرض ملحظنا فيها على آيات القسم بالواو في مستهل سورة الفجر، فنراها جميعاً لافتة لفتاً قوياً إلى صور مدركة من التقابل في الأضواء، ما بين نور الفجر وسرى الليل، وفي العدد، أياً كان المعدود، من شفع ووتر.
توطئة بيانية لما يتلو من آيات محكمات فيها تقابل بين الإبتلاء بالقوة وبالغنى والنعمة