وللمتدبر أن يطيل النظر فيما تحويه هذه الآية وما بعدها من تهيئة للتحريم، ومراعاة لواقع القوم وتمكن الخمر منهم فمزج النص القاطع في تحريمها ببيان آثارها وعواقب شربها الخطيرة وآثار طاعة الله وعواقب معصيته.
ثم وصف الخمر بأوصاف تكفي لتحريمها بأنها رجس وبأنها من عمل الشيطان، وكفى بهذين الأمرين إشارة للتحريم، ومع هذا فقد صرح بالحكم "فاجتنبوه" وتلكم -والله- أبلغ كلمة، نعم إنها أبلغ من "حرام" أو "فاتركوها" أو "لا تشربوها" لأن من لم يشرب الخمر ولكنها وجدت في بيته أو في غرفته لم يخالف النصوص الأخيرة "حرام، فاتركوه، لا تشربوه" لأنه لم يرتكب شيئًا منها لكنه خالف "فاجتنبوه" إذ الاجتناب يقتضي أن تكون في جانب والخمر في جانب آخر غير جانبك، فإن كانت في غرفتك أو في دارك فأنت لم تجتنبها والخطاب ليس بالإفراد بل بالجمع للمسلمين عامة، فإذا وجد في بيت جارك وجب على المسلمين إتلافه فإن لم يفعلوا فإنهم لم يجتنبوه لأنه بينهم بل إن وجد في بلد آخر من بلاد الإسلام ولهم قدرة على إزالته ولم يفعلوا فهم لم يجتنبوه، إن الأمر بالاجتناب يقتضي أن يكون في جانب وبلاد المسلمين في جانب آخر أرأيتم إلى أي مدى وصل التحريم بهذه الكلمة.
تلكم المراحل التي مر بها تحريم الخمر، ولو قال قائل: إن الخمر فيها إثم وفيها منافع قلنا: تلكم مرحلة في التحريم، وإن قال: إن الخمر محرمة قرب الصلاة جائزة في غير أوقات الصلاة قلنا: تلك مرحلة تجاوزها التشريع إلى مرحلة الحسم في التحريم، فإن الحكم الشرعي إذا مر بمراحل فالحكم للمرحلة الأخيرة فيه.
أقول هذا توطئة للمرحلتين التاليتين اللتين يقع في خطأ فيهما بعض المفتين وهما مراحل تحريم الربا ومراحل تشريع الجهاد.


الصفحة التالية
Icon