وَأَقُولُ الْآنَ: إِنَّنِي كُنْتُ اكْتَفَيْتُ بِهَذَا الْقَدْرِ فِي تَفْسِيرِ الْإِنْزَالِ تَحَامِيًا لِمَا فِي الْمَسْأَلَةِ مِنْ خِلَافٍ وَجِدَالٍ، وَلَكِنَّنِي عُدْتُ فِي التَّفْسِيرِ إِلَى فَصْلِ الْمَقَالِ فِي مَسَائِلِ النِّزَاعِ، فَأَزِيدُ عَلَيْهِ أَنَّ إِنْزَالَ الْحَدِيدِ فِيهِ أَقْوَالٌ أُخْرَى لِلسَّلَفِ وَالْخَلْفِ، كَقَوْلِهِ تَعَالَى:
(وَأَنْزَلَ لَكُمْ مِنَ الْأَنْعَامِ ثَمَانِيَةَ أَزْوَاجٍ) (٣٩ - ٦) أَوْضَحُهَا أَنَّ الْمُرَادَ إِنْزَالُ الْأَحْكَامِ الْمُتَعَلِّقَةِ بِهَا، وَقِيلَ: إِنَّ الْحَدِيدَ نُزِّلَ مِنَ الْجَنَّةِ مَعَ آدَمَ، وَمِنَ الْمَعْلُومِ أَنَّ الْإِنْزَالَ فِي أَصْلِ اللُّغَةِ: هُوَ نَقْلُ الشَّيْءِ مِنْ مَكَانٍ عَالٍ إِلَى مَا دُونَهُ، وَيُطْلَقُ الْعُلُوُّ مَجَازًا فِي الْأُمُورِ الْمَعْنَوِيَّةِ، فَهُوَ عُلُوُّ مَكَانٍ وَعُلُوُّ مَكَانَةٍ، وَمِنَ الثَّانِي: (وَإِنَّ فِرْعَوْنَ لِعَالٍ فِي الْأَرْضِ) (١٠: ٨٣).
وَالتَّحْقِيقُ أَنَّ عُلُوَّ الْمَكَانِ الْحِسِّيِّ أَمْرٌ نِسْبِيٌّ يَخْتَلِفُ بِاخْتِلَافِ مَوْقِعِ النَّاسِ مِنَ الْأَشْيَاءِ، وَالْجِهَاتُ كُلُّهَا أُمُورٌ نِسْبِيَّةٌ لَا حَقِيقِيَّةٌ، وَأَنَّ اللهَ سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى فَوْقَ جَمِيعِ خَلْقِهِ بَائِنٌ مِنْهُمْ، بِلَا تَشْبِيهٍ وَلَا تَمْثِيلٍ، وَلَا مُتَّصِلٌ بِشَيْءٍ وَلَا حَالٌ فِيهِ، مُسْتَوٍ عَلَى عَرْشِهِ بِالْمَعْنَى الَّذِي أَرَادَهُ، وَهَذَا وَجْهُ تَسْمِيَةِ مَا يَأْتِي مِنْ لَدُنْهُ إِنْزَالًا، فَمَلَكُ الْوَحْيِ كَانَ يَتَلَقَّى الْوَحْيَ مِنْهُ - عَزَّ وَجَلَّ - وَيَنْزِلُ بِهِ مِنَ السَّمَاءِ إِلَى الْأَرْضِ فَيَتَلَقَّاهُ مِنْهُ النَّبِيُّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - وَلَا نَعْلَمُ صِفَةَ تَلَقِّي الْمَلَكِ عَنِ اللهِ تَعَالَى؛ لِأَنَّهُ مِنَ الْغَيْبِ الَّذِي نُؤْمِنُ بِهِ مُجْمَلًا كَمَا بُلِّغْنَاهُ، وَلَا صِفَةَ تَلَقِّي النَّبِيِّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - مِنْ جِبْرِيلَ؛ لِأَنَّهُ مِنْ شَأْنِ النُّبُوَّةِ وَلَسْنَا بِأَنْبِيَاءَ، وَهُوَ مِنَ الصِّلَةِ بَيْنَ عَالِمِ الْغَيْبِ وَالشَّهَادَةِ، وَلَكِنَّ اللهَ وَصَفَ لَنَا تَكْلِيمَهُ لِلْبَشَرِ بِقَوْلِهِ: (وَمَا كَانَ لِبَشَرٍ أَنْ يُكَلِّمَهُ اللهُ إِلَّا وَحْيًا أَوْ مِنْ وَرَاءِ حِجَابٍ أَوْ يُرْسِلَ رَسُولًا فَيُوحِيَ بِإِذْنِهِ مَا يَشَاءُ) (٤٢: ٥١) الْآيَةَ - وَقَوْلِهِ: (نَزَلَ بِهِ الرُّوحُ الْأَمِينُ عَلَى قَلْبِكَ لِتَكُونَ مِنَ الْمُنْذِرِينَ بِلِسَانٍ عَرَبِيٍّ مُبِينٍ) (٢٦: ١٩٣ - ١٩٥) وَوَصَفَهُ لَنَا رَسُولُهُ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - فِي جَوَابِهِ لِمَنْ سَأَلَهُ عَنْهُ - وَهُوَ الْحَارِثُ بْنُ هَاشِمٍ الْمَخْزُومِيُّ - فَقَالَ: ((أَحْيَانًا يَأْتِينِي مِثْلَ صَلْصَلَةِ الْجَرَسِ وَهُوَ أَشَدُّهُ عَلَيَّ فَيَفْصِمُ عَنِّي وَقَدْ وَعَيْتُ مَا قَالَ، وَأَحْيَانًا يَتَمَثَّلُ لِي الْمَلَكُ رَجُلًا فَيُكَلِّمُنِي فَأَعِي مَا يَقُولُ)) رَوَاهُ الشَّيْخَانِ مِنْ حَدِيثِ عَائِشَةَ - رَضِيَ اللهُ عَنْهَا -. ثُمَّ قَالَ تَعَالَى:
(وَبِالْآخِرَةِ هُمْ يُوقِنُونَ) أَمَّا لَفْظُ (الْآخِرَةِ) فَقَدْ وَرَدَ فِي الْقُرْآنِ كَثِيرًا وَالْمُرَادُ بِهِ الْحَيَاةُ الْآخِرَةُ أَوِ الدَّارُ الْآخِرَةُ حَيْثُ الْجَزَاءُ عَلَى الْأَعْمَالِ، وَيَتَضَمَّنُ كُلَّ مَا وَرَدَتْ بِهِ النُّصُوصُ الْقَطْعِيَّةُ مِنَ الْحِسَابِ وَالْجَزَاءِ بِالْجَنَّةِ وَبِالنَّارِ.
وَأَمَّا الْيَقِينُ: فَهُوَ الِاعْتِقَادُ الْمُطَابِقُ الْوَاقِعِ الَّذِي لَا يَقْبَلُ الشَّكَّ وَلَا الزَّوَالَ، فَهُوَ اعْتِقَادَانِ: اعْتِقَادُ أَنَّ الشَّيْءَ كَذَا، وَاعْتِقَادُ أَنَّهُ لَا يُمْكِنُ أَنْ يَكُونَ إِلَّا كَذَا.
وَأَقُولُ الْآنَ: هَذَا مَا قَالَهُ شَيْخُنَا فِي الدَّرْسِ، وَهُوَ عُرْفُ عُلَمَاءِ الْمَعْقُولِ مِنَ الْمَنْطِقِيِّينَ وَالْمُتَكَلِّمِينَ، وَقَدْ جَارَيْنَاهُ عَلَيْهِ فِي مَوَاضِعَ، وَأَمَّا الْيَقِينُ فِي اللُّغَةِ: فَهُوَ
الِاعْتِقَادُ الْجَازِمُ فِي غَيْرِ الْحِسِّيَّاتِ وَالضَّرُورِيَّاتِ كَمَا صَرَّحُوا بِهِ، فَالْجَزْمُ بِخَبَرِ الصَّادِقِ وَاعْتِقَادِ الْمَبْنِيِّ عَلَى الْأَدِلَّةِ وَالْأَمَارَاتِ يُسَمَّى يَقِينًا إِذَا كَانَ ثَابِتًا لَا شَكَّ فِيهِ.


الصفحة التالية
Icon