الْآسِتَانَةِ لِاعْتِقَادِي أَنَّهُ لَا يَسْتَطِيعُ طُولَ الْمُقَامِ فِيهَا، وَعَلَّلْتُ ذَلِكَ بِقَوْلِي " لِأَنَّ بِلَادَ الشَّرْقِ أَمْسَتْ كَالْمَرِيضِ الْأَحْمَقِ يَأْبَى الدَّوَاءَ وَيَعَافُهُ لِأَنَّهُ دَوَاءٌ ".
وَبَعْدَ أَنْ تَوَفَّاهُ اللهُ تَعَالَى إِلَيْهِ فِيهَا تَعَلَّقَ أَمَلِي بِالِاتِّصَالِ بِخَلِيفَتِهِ الشَّيْخِ مُحَمَّدِ عَبْدِهِ، لِلْوُقُوفِ عَلَى اخْتِبَارِهِ وَآرَائِهِ فِي الْإِصْلَاحِ الْإِسْلَامِيِّ، وَمَا زِلْتُ أَتَرَبَّصُ الْفُرَصَ
لِذَلِكَ حَتَّى سَنَحَتْ لِي فِي رَجَبٍ سَنَةَ ١٣١٥ هـ وَكَانَ ذَلِكَ عَقِبَ إِتْمَامِ تَحْصِيلِي لِلْعِلْمِ فِي طَرَابُلُسَ وَأَخْذِ شَهَادَةِ الْعَالَمِيَّةِ أَوِ التَّدْرِيسِ مِنْ شُيُوخِي فِيهَا، فَهَاجَرْتُ إِلَى مِصْرَ، وَأَنْشَأْتُ الْمَنَارَ لِلدَّعْوَةِ إِلَى الْإِصْلَاحِ.
اتَّصَلْتُ بِالشَّيْخِ فِي الضَّحْوَةِ الصُّغْرَى لِلْيَوْمِ الَّذِي وَصَلْتُ فِي لَيْلِهِ إِلَى الْقَاهِرَةِ فَكَانَ اتِّصَالِي بِهِ مِنْ أَوَّلِ يَوْمٍ كَاتِّصَالِ اللَّازِمِ الْبَيِّنِ بِالْمَعْنَى الْأَخَصِّ بِمَلْزُومِهِ، وَكَانَ أَوَّلُ اقْتِرَاحٍ لِي عَلَيْهِ أَنْ يَكْتُبَ تَفْسِيرًا لِلْقُرْآنِ يَنْفُخُ فِيهِ مِنْ رُوحِهِ الَّتِي وَجَدْنَا رُوحَهَا وَنُورَهَا فِي مَقَالَاتِ " الْعُرْوَةِ الْوُثْقَى " الِاجْتِمَاعِيَّةِ الْعَامَّةِ، فَقَالَ: إِنَّ الْقُرْآنَ لَا يَحْتَاجُ إِلَى تَفْسِيرٍ كَامِلٍ مِنْ كُلِّ وَجْهٍ، فَلَهُ تَفَاسِيرُ كَثِيرَةٌ أُتْقِنُ بَعْضَهَا مَا لَمْ يُتْقِنْهَا بَعْضٌ. وَلَكِنَّ الْحَاجَةَ شَدِيدَةٌ إِلَى تَفْسِيرِ بَعْضِ الْآيَاتِ، وَلَعَلَّ الْعُمْرَ لَا يَتَّسِعُ لِتَفْسِيرٍ كَامِلٍ. فَاقْتَرَحْتُ عَلَيْهِ أَنْ يَقْرَأَ دَرْسًا فِي التَّفْسِيرِ، وَكَانَ ذَلِكَ فِي شَعْبَانَ سَنَةَ ١٣١٥ هـ ثُمَّ كَرَّرْتُ عَلَيْهِ الِاقْتِرَاحَ فِي رَمَضَانَ، وَكَانَ يَعْتَذِرُ بِمَا أَذْكُرُ أَهَمَّهُ هُنَا.
زُرْتُهُ يَوْمَ الْجُمُعَةِ ١٣ رَمَضَانَ فَقَرَأَ لِي عِبَارَةً مِنْ كِتَابٍ فَرَنْسِيٍّ فِي الطَّعْنِ عَلَى الْإِسْلَامِ، وَطَفِقَ يَرُدُّ عَلَيْهَا بَعْدَ أَنْ قَالَ: إِنَّ هَؤُلَاءِ الْإِفْرِنْجَ يَأْخُذُونَ مَطَاعِنَهُمْ فِي الْإِسْلَامِ مِنْ سُوءِ حَالِ الْمُسْلِمِينَ، مَعَ جَهْلِهِمْ هُمْ بِحَقِيقَةِ الْإِسْلَامِ. قَالَ: إِنَّ الْقُرْآنَ نَظِيفٌ وَالْإِسْلَامَ نَظِيفٌ، وَإِنَّمَا لَوَّثَهُ الْمُسْلِمُونَ بِإِعْرَاضِهِمْ عَنْ كُلِّ مَا فِي الْقُرْآنِ وَاشْتِغَالِهِمْ بِسَفْسَافِ الْأُمُورِ. وَطَفِقَ يَتَكَلَّمُ بِهَذِهِ الْمُنَاسَبَةِ فِي تَفْسِيرِ قَوْلِهِ تَعَالَى: (هُوَ الَّذِي خَلَقَ لَكُمْ مَا فِي الْأَرْضِ جَمِيعًا) وَمَاذَا كَانَ يَنْبَغِي لِلْمُسْلِمِينَ أَنْ يَكُونُوا عَلَيْهِ لَوِ اهْتَدَوْا بِهَا.
ثُمَّ ذَكَرَ أَنَّ الطَّاعِنَ ادَّعَى أَنَّ الْمُسْلِمِينَ لَمْ يُعَلِّمْهُمْ نَبِيُّهُمْ مِنْ صِفَاتِ الْخَالِقِ إِلَّا أَنَّهُ حَاكِمٌ قَاهِرٌ وَسُلْطَانٌ عَظِيمٌ، قَدْ أَوْجَبَ الْفَتْحَ عَلَى أَتْبَاعِهِ لِأَجْلِ قَهْرِ الْأُمَمِ لَا لِأَجْلِ تَرْبِيَتِهَا. وَقَالَ: فَأَيْنَ هَذَا مِنْ تَسْمِيَةِ النَّصَارَى خَالِقَهُمْ بِالْأَبِ الدَّالِّ عَلَى الرَّأْفَةِ وَالْعَطْفِ؟ ثُمَّ طَفِقَ الْأُسْتَاذٌ يَرُدُّ عَلَى هَذَا الْقَوْلِ بِالْكَلَامِ عَلَى اسْمِ الرَّبِّ وَمَا فِيهِ مِنْ مَعَانِي التَّرْبِيَةِ وَالْعَطْفِ وَالتَّفْرِقَةِ بَيْنَهُ وَبَيْنَ مَعْنَى الْأَبِ، وَكَوْنِ طَلَبِهِ لِلْوَلَدِ بِمُقْتَضَى شَهْوَتِهِ لَا مَحَبَّتِهِ لَهُ، وَغَيْرِ ذَلِكَ مِنْ شُئُونِ الْوَالِدِ الَّتِي يُنَزَّهُ اللهُ تَعَالَى عَنِ الِاتِّصَافِ بِهَا، وَأَطَالَ فِي ذَلِكَ، وَهَاهُنَا دَارَ بَيْنِي وَبَيْنَهُ مَا أَذْكُرُ مُلَخَّصَهُ كَمَا كَتَبْتُهُ بَعْدَ مُفَارَقَةِ ذَلِكَ الْمَجْلِسِ وَهُوَ: (قُلْتُ) : لَوْ كَتَبْتَ تَفْسِيرًا عَلَى هَذَا النَّحْوِ تَقْتَصِرُ فِيهِ عَلَى حَاجَةِ الْعَصْرِ، وَتَتْرُكُ
كُلَّ مَا هُوَ مَوْجُودٌ فِي كُتُبِ التَّفْسِيرِ وَتُبَيِّنُ مَا أَهْمَلُوهُ...
قَالَ: " إِنَّ الْكُتُبَ لَا تُفِيدُ الْقُلُوبَ الْعُمْيَ. فَإِنَّ دُكَّانَ السَّيِّدِ عُمَرَ الْخَشَّابِ مَمْلُوءَةٌ بِالْكُتُبِ مِنْ