وَمَلَكَ أَمْرَهَا حَتَّى لَمْ يَعُدْ فِيهَا اسْتِعْدَادٌ لِغَيْرِهِ، كَمَا تَقَدَّمَ مِثْلُهُ عَنِ الرَّاغِبِ، وَيُوَضِّحُ مَا قُلْنَاهُ قَوْلُهُ تَعَالَى فِي سُورَةِ الْمُنَافِقِينَ: (ذَلِكَ بِأَنَّهُمْ آمَنُوا ثُمَّ كَفَرُوا فَطُبِعَ عَلَى قُلُوبِهِمْ) (٦٣: ٣) وَقَوْلُهُ فِي الْيَهُودِ مِنْ سُورَةِ النِّسَاءِ: (فَبِمَا نَقْضِهِمْ مِيثَاقَهُمْ وَكَفْرِهِمْ بِآيَاتِ اللهِ وَقَتْلِهُمُ الْأَنْبِيَاءَ بِغَيْرِ حَقٍّ وَقَوْلِهِمْ قُلُوبُنَا غُلْفٌ بَلْ طَبَعَ اللهُ عَلَيْهَا بِكُفْرِهِمْ فَلَا
يُؤْمِنُونَ إِلَّا قَلِيلًا) (٤: ١٥٥) فَذَكَرَ أَنَّ الطَّبْعَ عَلَى قُلُوبِهِمْ إِنَّمَا هُوَ بِسَبَبِ كُفْرِهِمْ وَتِلْكَ الْمَعَاصِي الَّتِي أَسْنَدَهَا إِلَيْهِمْ، وَقَوْلُهُ تَعَالَى فِي سُورَةِ الْجَاثِيَةِ: (أَفَرَأَيْتَ مَنِ اتَّخَذَ إِلَهَهُ هَوَاهُ وَأَضَلَّهُ اللهُ عَلَى عِلْمٍ وَخَتَمَ عَلَى سَمْعِهِ وَقَلْبِهِ وَجَعَلَ عَلَى بَصَرِهِ غِشَاوَةً فَمَنْ يَهْدِيهِ مِنْ بَعْدِ اللهِ أَفَلَا تَذَكَّرُونَ) (٤٥: ٢٣) فَقَدْ ذَكَرَ مِنْ فِعْلِهِ الْمُسْنَدِ إِلَيْهِ: أَنَّهُ اتَّخَذَ إِلَهَهُ هَوَاهُ، وَمَنْ صَارَ هَوَاهُ مَعْبُودَهُ لَا يُفِيدُ مَعَهُ شَيْءٌ.
وَقَدْ صَرَّحَ هُنَا بِأَنَّ الْغِشَاوَةَ عَلَى بَصَرِهِ مِنْ جَعْلِ اللهِ تَعَالَى، وَلَمْ يُصَرِّحْ فِي آيَةِ الْبَقَرَةِ الَّتِي نُفَسِّرُهَا، وَالْمَعْنَى وَاحِدٌ، وَلِشَيْخِنَا الْأُسْتَاذِ الْإِمَامِ دَقَائِقُ فِي هَذِهِ التَّعْبِيرَاتِ ادَّخَرَهَا اللهُ تَعَالَى لَهُ وَهِيَ مَعَ هَذَا تُغْنِيكَ عَنْ تَمَارِي الْأَشْعَرِيَّةِ وَالْمُعْتَزِلَةِ فِي الْآيَاتِ تَعَصُّبًا لِمَذَاهِبِهِمْ وَقَالَ:
يَقُولُونَ: إِنَّ الْخَتْمَ وَالطَّبْعَ وَالرَّيْنَ أَلْفَاظٌ تَجْرِي عَلَى شَيْءٍ وَاحِدٍ، وَهُوَ: تَغْطِيَةُ الشَّيْءِ وَالْحَيْلُولَةُ بَيْنَهُ وَبَيْنَ مَا مِنْ شَأْنِهِ أَنْ يَدْخُلَهُ وَيَمَسَّهُ، وَالْقُلُوبُ مُرَادٌ بِهَا الْعُقُولُ. وَالْمُرَادُ بِالسَّمْعِ: الْأَسْمَاعُ، وَإِفْرَادُهُ لِأَنَّ أَصْلَهُ مَصْدَرٌ، وَمِنْ شَأْنِ الْمَصَادِرِ أَلَّا تُجْمَعَ، وَقَدْ لُوحِظَ هُنَا الْأَصْلُ، وَالْأَبْصَارُ: الْعُيُونُ الَّتِي تُدْرِكُ الْمُبْصَرَاتِ مِنَ الْأَشْكَالِ وَالْأَلْوَانِ.
(قَالَ) : وَأَنَا أَرَى فِي مَسْأَلَةِ هَذَا الْجَمْعِ وَالْإِفْرَادِ رَأْيًا آخَرَ، إِذْ لَوْ صَحَّ مَا قِيلَ فَإِنَّ الْبَصَرَ أَيْضًا مَصْدَرٌ فَلِمَاذَا جَمَعَهُ؟ وَالَّذِي أَرَاهُ أَنَّ الْعَقْلَ لَهُ وُجُوهٌ كَثِيرَةٌ فِي إِدْرَاكِ الْمَعْقُولَاتِ، فَلَيْسَ النَّاسُ فِيهِ سَوَاءً فَجَمَعَ لِاخْتِلَافِ النَّاسِ فِيهِ، وَأَنْوَاعُ تَصَرُّفِهِمْ فِي وُجُوهِهِ بِخِلَافِ السَّمْعِ، فَإِنَّ أَسْمَاعَ النَّاسِ تَتَسَاوَى فِي إِدْرَاكِ الْمَسْمُوعَاتِ، فَلَا تَتَشَعَّبُ تَشَعُّبَ الْعُقُولِ فِي إِدْرَاكِ الْمَعْقُولَاتِ، وَأَمَّا الْأَبْصَارُ: فَهِيَ مِثْلُ الْعُقُولِ فِي التَّشَعُّبِ، وَأَعْظَمُ مَعِينٍ لِلْعُقُولِ فِي إِدْرَاكِهَا؛ لِأَنَّ أَنْوَاعَ الْمُبْصِرَاتِ كَثِيرَةٌ فَتُعْطِي لِلْعَقْلِ مَوَادَّ كَثِيرَةً، وَالسَّمْعُ لَا يُدْرِكُ إِلَّا الصَّوْتَ، وَلَيْسَ فِي الْكَلَامِ عِنْدَ النَّقْلِ طَرِيقٌ مِنْ طُرُقِ الْعِلْمِ الْيَقِينِيِّ إِلَّا التَّوَاتُرُ (بِخِلَافِ مَا نَقْطَعُ فِيهِ بِالضَّرُورَةِ مِنْ طَرِيقِ الْعَقْلِ وَالْبَصَرِ، فَهُوَ كَثِيرٌ، فَالْأَوَّلِيَّاتُ كَالْحُكْمِ أَنَّ الْجُزْءَ أَصْغَرُ مِنَ الْكُلِّ
وَأَنَّ النَّقِيضَيْنِ لَا يَجْتَمِعَانِ وَلَا يَرْتَفِعَانِ، وَالْقَضَايَا الَّتِي