لِلَّهِ وَالْمُؤْمِنِينَ لَا تَأْثِيرَ لَهَا فِيهِمَا، فَهِيَ بِالنِّسْبَةِ إِلَيْهِمَا صُورِيَّةٌ، وَفِي الْحَقِيقَةِ: أَنَّ الْقَوْمَ يَخْدَعُونَ أَنْفُسَهُمْ؛ لِأَنَّ ضَرَرَ عَمَلِهِمْ خَاصٌّ بِهِمْ، وَعَاقِبَتَهُ وَبَالٌ عَلَيْهِمْ
وَحْدَهُمْ.
وَقَالَ الْأُسْتَاذُ فِي الدَّرْسِ فِيهَا مَا مِثَالُهُ:
إِذَا رَجَعَ الْإِنْسَانُ إِلَى نَفْسِهِ، وَأَصْغَى لِمُنَاجَاةِ سِرِّهِ يَجِدُ عِنْدَمَا يَهُمُّ بِعَمَلِ شَيْءٍ أَنَّ فِي قَلْبِهِ طَرِيقَيْنِ، وَفِي نَفْسِهِ خَصْمَيْنِ مُخْتَصِمَيْنِ، أَحَدُهُمَا: يَأْمُرُهُ بِالْعَمَلِ وَسُلُوكِ الطَّرِيقِ الْأَعْوَجِ، وَآخَرُ: يَنْهَاهُ عَنِ الْعِوَجِ وَيَأْمُرُهُ بِالِاسْتِقَامَةِ عَلَى الْمَنْهَجِ، وَلَا يَتَرَجَّحُ عِنْدَهُ بَاعِثُ الشَّرِّ، وَلَا يُجِيبُ دَاعِيَ السُّوءِ، إِلَّا إِذَا خَدَعَ نَفْسَهُ بَعْدَ الْمُشَاوَرَةِ وَالْمُذَاكَرَةِ الْمَطْلُوبَةِ فِيهَا، وَصَرَفَهَا عَنِ الْحَقِّ وَزَيَّنَ لَهَا الْبَاطِلَ، وَهَذِهِ الشُّئُونُ النَّفْسِيَّةُ فِي غَايَةِ الْخَفَاءِ، تَكُونُ الْمُنَازَعَةُ ثُمَّ الْمُخَادَعَةُ ثُمَّ التَّرْجِيحُ وَيَمُرُّ ذَلِكَ كُلُّهُ كَلَمْحِ الْبَصَرِ، وَرُبَّمَا لَا يَلْتَفِتُ إِلَيْهِ الْإِنْسَانُ بِفِكْرِهِ، وَلِذَلِكَ قَالَ: (وَمَا يَشْعُرُونَ) فَإِنَّ الشُّعُورَ هُوَ إِدْرَاكُ مَا خَفِيَ.
أَقُولُ: قَالَ الرَّاغِبُ بَعْدَ ذِكْرِ الشَّعْرِ - بِفَتْحِ الشِّينِ وَسُكُونِ الْعَيْنِ وَفَتْحِهَا - مِنْ مُفْرَدَاتِهِ وَشَعَرْتُ أَصَبْتُ الشَّعْرَ، وَمِنْهُ اسْتُعِيرَ شَعَرْتُ كَذَا أَيْ عَلِمْتُ عِلْمًا هُوَ فِي الدِّقَّةِ كَإِصَابَةِ الشَّعْرِ، وَمِنْهُ يُسَمَّى الشَّاعِرُ شَاعِرًا لِفِطْنَتِهِ وَدِقَّةِ مَعْرِفَتِهِ، فَالشِّعْرُ فِي الْأَصْلِ اسْمٌ لِلْعِلْمِ الدَّقِيقِ فِي قَوْلِهِمْ: لَيْتَ شِعْرِي. وَصَارَ فِي التَّعَارُفِ اسْمًا لِلْمَوْزُونِ الْمُقَفَّى مِنَ الْكَلَامِ اهـ.
أَقُولُ: وَيُنَاسِبُ هَذَا الشِّعَارُ - بِالْكَسْرِ - لِلْكِسَاءِ الْبَاطِنِ الَّذِي يَمَسُّ شَعْرَ الْإِنْسَانِ، وَالْمَعْرُوفُ فِي كُتُبِ اللُّغَةِ أَنَّ شَعَرَ بِهِ - كَنَصَرَ وَكَرُمَ - يَشْعُرُ شِعْرًا - بِالْكَسْرِ وَالْفَتْحِ - وَشُعُورًا مَعْنَاهُ عَلِمَ بِهِ وَفَطَنَ لَهُ وَأَدْرَكَهُ، وَالْفِطْنَةُ تَتَعَلَّقُ بِالْأُمُورِ الدَّقِيقَةِ.
وَأَطْلَقَ بَعْضُ الْمُفَسِّرِينَ: أَنَّ الشُّعُورَ إِدْرَاكُ الْمَشَاعِرِ أَيِ الْحَوَاسِّ الْخَمْسِ، وَالتَّحْقِيقُ: أَنَّهُ إِدْرَاكُ مَا دَقَّ مِنْ حِسِّيٍّ وَعَقْلِيٍّ، فَلَا تَقُولُ: شَعَرْتُ بِحَلَاوَةِ الْعَسَلِ، وَبِصَوْتِ الصَّاعِقَةِ، وَبِأَلَمِ كَيَّةِ النَّارِ، وَإِنَّمَا تَقُولُ: أَشْعُرُ بِحَرَارَةِ مَا فِي بَدَنِي، وَبِمُلُوحَةٍ أَوْ مَرَارَةٍ فِي هَذَا الْمَاءِ إِذَا كَانَتْ قَلِيلَةً، وَبِهَيْنَمَةٍ وَرَاءَ الْجِدَارِ، وَمَا وَرَدَ فِي الْقُرْآنِ مِنْ هَذَا الْحَرْفِ يَدُلُّ عَلَى هَذَا الْمَعْنَى، أَيْ إِدْرَاكُ مَا فِيهِ دِقَّةٌ وَخَفَاءٌ.
فَمَعْنَى نَفْيِ الشُّعُورِ عَنِ الْمُنَافِقِينَ فِي مُخَادَعَتِهِمُ اللهَ تَعَالَى: أَنَّهُمْ يَجْرُونَ فِي كَذِبِهِمْ وَتَلْبِيسِهِمْ وَرِيَائِهِمْ عَلَى مَا أَلِفُوا وَتَعَوَّدُوا، فَلَا يُحَاسِبُونَ أَنْفُسَهُمْ عَلَيْهِ وَلَا يُرَاقِبُونَ اللهَ فِيهِ، وَمَا كُلُّهُمْ يُؤْمِنُونَ بِوُجُودِ اللهِ وَإِحَاطَةِ عِلْمِهِ، وَمَنْ يُؤْمِنُ بِوُجُودِهِ لَمْ يَتَرَبَّ عَلَى خَشْيَتِهِ وَمُرَاقَبَتِهِ، وَلَا يُفَكِّرْ فِيمَا يُرْضِيهِ وَفِيمَا يُغْضِبُهُ، فَهُوَ يَعْمَلُ عَمَلَ الْمُخَادِعِ لَهُ
وَمَا يَشْعُرُ بِذَلِكَ، وَأَمَّا مُخَادَعَتُهُمْ لِلْمُؤْمِنِينَ فَظَاهِرَةٌ، لِأَنَّهُمُ اتَّخَذُوهُمْ أَعْدَاءً وَهُمْ عَاجِزُونَ عَنْ إِظْهَارِ عَدَاوَاتِهِمْ، فَأَعْمَالُهُمُ الَّتِي يَقْصِدُونَ بِهَا إِرْضَاءَ الْمُؤْمِنِينَ كُلُّهَا خِدَاعٌ وَرِيَاءٌ.


الصفحة التالية
Icon