إِنَّ حَالَةَ الْمُخَاطَبِ تُؤَثِّرُ بِي جِدًّا، وَلِذَلِكَ لَا أَتَكَلَّمُ بِشَيْءٍ عَنْ حَالَةِ الْإِسْلَامِ عِنْدَمَا أَجْتَمِعُ بِهَؤُلَاءِ الْعُلَمَاءِ؛ لِأَنَّ أَفْكَارَهُمْ مُنْصَرِفَةٌ عَنْ ذَلِكَ بِالْكُلِّيَّةِ، وَلِذَلِكَ لَا يَعْمَلُونَ شَيْئًا مَعَ سَعَةِ وَقْتِهِمْ. وَعِنْدَ قِرَاءَةِ التَّفْسِيرِ كُنْتُ أَتَكَلَّمُ عَلَى حَسَبِ حَالَةِ الْحَاضِرِينَ، لِأَنَّنِي لَا أُطَالِعُ عِنْدَمَا أَقْرَأُ لَكِنِّي رُبَّمَا أَتَصَفَّحُ كِتَابَ تَفْسِيرٍ إِذَا كَانَ هُنَاكَ وَجْهٌ غَرِيبٌ فِي الْإِعْرَابِ أَوْ كَلِمَةٌ غَرِيبَةٌ فِي اللُّغَةِ. فَإِذَا حَضَرَنِي جَمَاعَةٌ مِنَ الْبُلَدَاءِ الْخَامِلِي الْفِكْرِ أَحُلُّ لَهُمُ الْمَعْنَى بِكَلِمَاتٍ قَلِيلَةٍ، وَإِذَا كَانَ هُنَاكَ مَنْ يَتَنَبَّهُ لِمَا أَقُولُ وَيُلْقِي لَهُ بَالًا، يُفْتَحُ عَلَيَّ بِكَلَامٍ كَثِيرٍ ".
(قُلْتُ) : إِنَّ الزَّمَانَ لَا يَخْلُو مِمَّنْ يَقْدِرُ كَلَامَ الْإِصْلَاحِ قَدْرَهُ وَإِنْ كَانُوا قَلِيلِينَ، وَسَيَزِيدُ عَدَدُهُمْ يَوْمًا فَيَوْمًا، فَالْكِتَابَةُ تَكُونُ مُرْشِدًا لَهُمْ فِي سَيْرِهِمْ. وَإِنَّ الْكَلَامَ الْحَقَّ وَإِنْ قَلَّ الْآخِذُ بِهِ وَالْعَارِفُ بِشَأْنِهِ، لَا بُدَّ أَنْ يُحْفَظَ وَيَنْمُوَ بِمُصَادَفَةِ الْمَبَاءَةِ الْمُنَاسِبَةِ لَهُ، وَهُوَ مُقْتَضَى نَامُوسِ (أَيْ سُنَّةِ) الِانْتِخَابِ الطَّبِيعِيِّ، كَمَا حَفِظْتُ " الْعُرْوَةَ الْوُثْقَى " فَإِنَّ أَوْرَاقَهَا الْأَصْلِيَّةَ الضَّعِيفَةَ قَدْ بَلِيَتْ لَكِنْ مَا فِيهَا مِنَ الْمَقَالَاتِ الْبَدِيعَةِ الْمِثَالِ وَالْفَوَائِدِ الْعَظِيمَةِ، قَدْ حُفِظَتْ فِي الطُّرُوسِ وَالنُّفُوسِ إِلَخْ.
وَلَمْ أَزَلْ بِهِ حَتَّى أَقْنَعْتُهُ بِقِرَاءَةِ التَّفْسِيرِ فِي الْأَزْهَرِ فَاقْتَنَعَ وَبَدَأَ بِالدَّرْسِ بَعْدَ ثَلَاثَةِ أَشْهُرٍ وَنِصْفٍ أَيْ فِي غُرَّةِ الْمُحَرَّمِ سَنَةَ ١٣١٧ هـ وَانْتَهَى مِنْهُ فِي مُنْتَصَفِ الْمُحَرَّمِ سَنَةَ ١٣٢٣ هـ عِنْدَ تَفْسِيرِ قَوْلِهِ تَعَالَى: (وَكَانَ اللهُ بِكُلِّ شَيْءٍ مُحِيطًا) مِنَ الْآيَةِ ١٢٦ مِنْ سُورَةِ النِّسَاءِ، فَقَرَأَ زُهَاءَ خَمْسَةِ أَجْزَاءٍ فِي سِتِّ سِنِينَ، إِذْ تُوُفِّيَ لِثَمَانٍ خَلَوْنَ مِنْ جُمَادَى الْأُولَى مِنْهَا رَحِمَهُ اللهُ تَعَالَى وَأَثَابَهُ.
كَانَتْ طَرِيقَتُهُ فِي قِرَاءَةِ الدَّرْسِ عَلَى مَقْرُبَةٍ مِمَّا ارْتَآهُ فِي كِتَابَةِ التَّفْسِيرِ، وَهُوَ
أَنْ يَتَوَسَّعَ فِيهِ فِيمَا أَغْفَلَهُ أَوْ قَصَّرَ فِيهِ الْمُفَسِّرُونَ، وَيَخْتَصِرُ فِيمَا بَرَزُوا فِيهِ مِنْ مَبَاحِثِ الْأَلْفَاظِ وَالْإِعْرَابِ وَنُكَتِ الْبَلَاغَةِ، وَفِي الرِّوَايَاتِ الَّتِي لَا تَدُلُّ عَلَيْهَا وَلَا تَتَوَقَّفُ عَلَى فَهْمِهَا الْآيَاتُ، وَيَتَوَكَّأُ فِي ذَلِكَ عَلَى عِبَارَةِ " تَفْسِيرِ الْجَلَّالِينَ " الَّذِي هُوَ أَوْجَزُ التَّفَاسِيرِ، فَكَانَ يَقْرَأُ عِبَارَتَهُ فَيُقِرُّهَا أَوْ يَنْتَقِدُ مِنْهَا مَا يَرَاهُ مُنْتَقَدًا، ثُمَّ يَتَكَلَّمُ فِي الْآيَةِ أَوِ الْآيَاتِ الْمُنَزَّلَةِ فِي مَعْنًى وَاحِدٍ بِمَا فَتَحَ اللهُ عَلَيْهِ مِمَّا فِيهِ هِدَايَةٌ وَعِبْرَةٌ.
وَكُنْتُ أَكْتُبُ فِي أَثْنَاءِ إِلْقَاءِ الدَّرْسِ مُذَكِّرَاتٍ أُودِعُهَا مَا أَرَاهُ أَهَمَّ مَا قَالَهُ، وَأَحْفَظُ مَا أَكْتُبُ لِأَجْلِ أَنْ أُبَيِّضَهُ، وَأَمُدَّهُ بِكُلِّ مَا أَتَذَكَّرُهُ فِي وَقْتِ الْفَرَاغِ، وَلَمْ أَلْبَثْ أَنْ أَقْتَرِحَ عَلَى بَعْضِ الرَّاغِبِينَ فِي الِاطِّلَاعِ عَلَيْهِ مِنْ قُرَّاءِ الْمَنَارِ فِي الْبِلَادِ الْمُخْتَلِفَةِ، وَمِنَ الْحَرِيصِينَ عَلَى حِفْظِهِ مِنَ الْإِخْوَانِ بِمِصْرَ أَنْ أَنْشُرَهُ فِي الْمَنَارِ. فَشَرَعْتُ فِي ذَلِكَ فِي أَوَّلِ الْمُحَرَّمِ سَنَةَ ١٣١٨ هـ وَذَلِكَ فِي الْمُجَلَّدِ الثَّالِثِ مِنَ الْمَنَارِ، وَكُنْتُ أَوَّلًا أُطْلِعُ الْأُسْتَاذَ الْإِمَامَ عَلَى مَا أُعِدَّهُ لِلطَّبْعِ كُلَّمَا تَيَسَّرَ


الصفحة التالية
Icon