وَإِرْشَادُهَا إِلَى طَرِيقَةِ الْحَيَاةِ الِاجْتِمَاعِيَّةِ مَا لَا يَسْتَغْنِي عَنْهُ مَنْ يُؤْمِنُ بِاللهِ وَالْيَوْمِ الْآخِرِ، وَمَا هُوَ أَجْدَرُ بِالدُّخُولِ فِي الْفِقْهِ الْحَقِيقِيِّ، وَلَا يُوجَدُ هَذَا الْإِرْشَادُ إِلَّا فِي الْقُرْآنِ، وَفِيمَا أُخِذَ مِنْهُ - كَإِحْيَاءِ الْعُلُومِ - حَظٌّ عَظِيمٌ مِنْ عِلْمِ التَّهْذِيبِ، وَلَكِنَّ سُلْطَانَ الْقُرْآنِ
عَلَى نُفُوسِ الَّذِينَ يَفْهَمُونَهُ وَتَأْثِيرَهُ فِي قُلُوبِ الَّذِينَ يَتْلُونَهُ حَقَّ تِلَاوَتِهِ لَا يُسَاهِمُهُ فِيهِ كَلَامٌ، كَمَا أَنَّ الْكَثِيرَ مِنْ حِكَمِهِ وَمَعَارِفِهِ لَمْ يُكْشَفْ عَنْهَا اللِّثَامُ. وَلَمْ يُفْصِحْ عَنْهَا عَالِمٌ وَلَا إِمَامٌ. ثُمَّ إِنَّ أَئِمَّةَ الدِّينِ قَالُوا: إِنَّ الْقُرْآنَ سَيَبْقَى حُجَّةً عَلَى كُلِّ فَرْدٍ مِنْ أَفْرَادِ الْبَشَرِ إِلَى يَوْمِ الْقِيَامَةِ، وَمِنْ أَدِلَّةِ ذَلِكَ حَدِيثُ: " وَالْقُرْآنُ حُجَّةٌ لَكَ أَوْ عَلَيْكَ " وَلَا يُعْقَلُ إِلَّا بِفَهْمِهِ، وَالْإِصَابَةِ مِنْ حِكْمَتِهِ وَحِكَمِهِ.
خَاطَبَ اللهُ بِالْقُرْآنِ مَنْ كَانَ فِي زَمَنِ التَّنْزِيلِ، وَلَمْ يُوَجِّهِ الْخِطَابَ إِلَيْهِمْ لِخُصُوصِيَّةٍ فِي أَشْخَاصِهِمْ، بَلْ لِأَنَّهُمْ مِنْ أَفْرَادِ النَّوْعِ الْإِنْسَانِيِّ الَّذِي أُنْزِلَ الْقُرْآنُ لِهِدَايَتِهِ. يَقُولُ اللهُ تَعَالَى: (يَاأَيُّهَا النَّاسُ اتَّقُوا رَبَّكُمُ) فَهَلْ يُعْقَلُ أَنَّهُ يَرْضَى مِنَّا بِأَنْ لَا نَفْهَمَ قَوْلَهُ هَذَا وَنَكْتَفِيَ بِالنَّظَرِ فِي قَوْلِ نَاظِرٍ نَظَرَ فِيهِ، لَمْ يَأْتِنَا مِنَ اللهِ وَحْيٌ بِوُجُوبِ اتِّبَاعِهِ لَا جُمْلَةً وَلَا تَفْصِيلًا؟ ! كَلَّا إِنَّهُ يَجِبُ عَلَى كُلِّ وَاحِدٍ مِنَ النَّاسِ أَنْ يَفْهَمَ آيَاتِ الْكِتَابِ بِقَدْرِ طَاقَتِهِ لَا فَرْقَ بَيْنَ عَالَمٍ وَجَاهِلٍ.
يَكْفِي الْعَامِّيَّ مِنْ فَهْمِ قَوْلِهِ تَعَالَى: (قَدْ أَفْلَحَ الْمُؤْمِنُونَ الَّذِينَ هُمْ فِي صَلَاتِهِمْ خَاشِعُونَ) إِلَخْ: مَا يُعْطِيهِ الظَّاهِرُ مِنَ الْآيَاتِ، وَأَنَّ الَّذِينَ جُمِعَتْ أَوْصَافُهُمْ فِي الْآيَاتِ الْكَرِيمَةِ لَهُمُ الْفَوْزُ وَالْفَلَاحُ عِنْدَ اللهِ تَعَالَى، وَيَكْفِي فِي مَعْرِفَةِ الْأَوْصَافِ أَنْ يَعْرِفَ مَعْنَى الْخُشُوعِ وَالْإِعْرَاضِ عَنِ اللَّغْوِ وَمَا لَا خَيْرَ فِيهِ، وَالْإِقْبَالِ عَلَى مَا فِيهِ فَائِدَةٌ لَهُ، دُنْيَوِيَّةٌ أَوْ أُخْرَوِيَّةٌ، وَبَذْلِ الْمَالِ فِي الزَّكَاةِ وَالْوَفَاءِ بِالْعَهْدِ، وَصِدْقِ الْوَعْدِ، وَالْعِفَّةِ عَنْ إِتْيَانِ الْفَاحِشَةِ، وَأَنَّ مَنْ فَارَقَ هَذِهِ الْأَوْصَافَ إِلَى أَضْدَادِهَا فَهُوَ الْمُتَعَدِّي حُدُودَ اللهِ، الْمُتَعَرِّضُ لِغَضَبِهِ، وَفَهْمُ هَذِهِ الْمَعَانِي مِمَّا يَسْهُلُ عَلَى الْمُؤْمِنِ مِنْ أَيِّ طَبَقَةٍ كَانَ، وَمِنْ أَهْلِ أَيِّ لُغَةٍ كَانَ. وَمِنَ الْمُمْكِنِ أَنْ يَتَنَاوَلَ كُلُّ أَحَدٍ مِنَ الْقُرْآنِ بِقَدْرِ مَا يَجْذِبُ نَفْسَهُ عَلَى الْخَيْرِ، وَيَصْرِفُهَا عَنِ الشَّرِّ، فَإِنَّ اللهَ تَعَالَى أَنْزَلَهُ لِهِدَايَتِنَا وَهُوَ يَعْلَمُ مِنَّا كُلَّ
أَنْوَاعِ الضَّعْفِ الَّذِي نَحْنُ عَلَيْهِ. وَهُنَاكَ مَرْتَبَةٌ تَعْلُو عَلَى هَذِهِ وَهِيَ مِنْ فُرُوضِ الْكِفَايَةِ.
لِلتَّفْسِيرِ مَرَاتِبُ أَدْنَاهَا: أَنْ يُبَيِّنَ بِالْإِجْمَالِ مَا يُشْرِبُ الْقَلْبَ عَظَمَةَ اللهِ وَتَنْزِيهَهُ، وَيَصْرِفُ النَّفْسَ عَنِ الشَّرِّ وَيَجْذِبُهَا إِلَى الْخَيْرِ، وَهَذِهِ هِيَ الَّتِي قُلْنَا إِنَّهَا مُتَيَسِّرَةٌ لِكُلِّ أَحَدٍ (وَلَقَدْ يَسَّرْنَا الْقُرْآنَ لِلذِّكْرِ فَهَلْ مِنْ مُدَّكِرٍ) (٥٤: ١٧).
وَأَمَّا الْمَرْتَبَةُ الْعُلْيَا فَهِيَ لَا تَتِمُّ إِلَّا بِأُمُورٍ:
(أَحَدُهَا) : فَهْمُ حَقَائِقِ الْأَلْفَاظِ الْمُفْرَدَةِ الَّتِي أُودِعَهَا الْقُرْآنُ بِحَيْثُ يُحَقِّقُ الْمُفَسِّرُ ذَلِكَ مِنَ اسْتِعْمَالَاتِ أَهْلِ اللُّغَةِ، غَيْرَ مُكْتَفٍ بِقَوْلِ فُلَانٍ وَفَهْمِ فُلَانٍ، فَإِنَّ كَثِيرًا مِنَ الْأَلْفَاظِ كَانَتْ تُسْتَعْمَلُ فِي زَمَنِ التَّنْزِيلِ لِمَعَانٍ ثُمَّ غَلَبَتْ عَلَى غَيْرِهَا بَعْدَ ذَلِكَ بِزَمَنٍ قَرِيبٍ أَوْ بَعِيدٍ، مِنْ ذَلِكَ لَفْظُ " التَّأْوِيلِ " اشْتُهِرَ بِمَعْنَى التَّفْسِيرِ مُطْلَقًا أَوْ عَلَى وَجْهٍ