عَنِ السُّوَرِ عَلَى الْمَكِّيِّ وَالْمَدَنِيِّ، وَهُوَ يُفِيدُ فِي مَعْرِفَةِ النَّاسِخِ وَالْمَنْسُوخِ، وَهِيَ مَكِّيَّةٌ خِلَافًا لِمُجَاهِدٍ، فَالْإِجْمَاعُ عَلَى أَنَّ الصَّلَاةَ كَانَتْ بِالْفَاتِحَةِ لِأَوَّلِ فَرْضِيَّتِهَا. وَلَا رَيْبَ أَنَّ ذَلِكَ كَانَ فِي مَكَّةَ. وَقَالُوا: هِيَ الْمُرَادُ بِالسَّبْعِ الْمَثَانِي: (وَلَقَدْ آتَيْنَاكَ سَبْعًا مِنَ الْمَثَانِي وَالْقُرْآنَ الْعَظِيمَ) (١٥: ٨٧) وَهُوَ مَكِّيٌّ بِالنَّصِّ. وَقَالَ بَعْضُهُمْ: إِنَّهَا نَزَلَتْ مَرَّتَيْنِ، مَرَّةً بِمَكَّةَ عِنْدَ فَرْضِيَّةِ الصَّلَاةِ، وَأُخْرَى بِالْمَدِينَةِ حِينَ حُوِّلَتِ الْقِبْلَةُ، وَكَأَنَّ صَاحِبَ هَذَا الْقَوْلِ أَرَادَ الْجَمْعَ بَيْنَ الْقَوْلَيْنِ. وَلَيْسَ بِشَيْءٍ. وَقَالَ كَثِيرُونَ إِنَّهَا أَوَّلُ سُورَةٍ أُنْزِلَتْ بِتَمَامِهَا.
أَقُولُ الْآنَ ذَكَرَ الْحَافِظُ السَّيُوطِيُّ فِي الْإِتْقَانِ أَرْبَعَةَ أَقْوَالٍ فِي أَوَّلِ مَا أُنْزِلَ: -
أَحَدُهَا: (اقْرَأْ بِاسْمِ رَبِّكَ) (٩٦) رَوَاهُ الشَّيْخَانِ وَغَيْرُهُمَا مِنْ حَدِيثِ عَائِشَةَ.
ثَانِيهَا: (يَاأَيُّهَا الْمُدَّثِّرُ) (٧٤) رَوَاهُ الشَّيْخَانِ عَنْ سَلَمَةَ بْنِ عَبْدِ الرَّحْمَنِ عَنْ جَابِرِ بْنِ عَبْدِ اللهِ.
وَجَمَعُوا بَيْنَ الْقَوْلَيْنِ بِأَنَّ الْأَوَّلَ هُوَ أَوَّلُ مَا نَزَلَ عَلَى الْإِطْلَاقِ، وَهُوَ صَدْرُ سُورَةِ اقْرَأْ. وَالثَّانِي أَوَّلُ سُورَةٍ نَزَلَتْ بِتَمَامِهَا، أَوِ الثَّانِي أَوَّلُ مَا نَزَلَ بَعْدَ فَتْرَةِ الْوَحْيِ آمِرًا بِتَبْلِيغِ الرِّسَالَةِ. وَقِيلَ فِي الْجَمْعِ غَيْرُ ذَلِكَ كَمَا فِي " الْإِتْقَانِ ".
ثَالِثُهَا: سُورَةُ الْفَاتِحَةِ، قَالَ
فِي الْكَشَّافِ: ذَهَبَ ابْنُ عَبَّاسٍ وَمُجَاهِدٌ إِلَى أَنَّ أَوَّلَ سُورَةٍ نَزَلَتْ (اقْرَأْ) وَأَكْثَرُ الْمُفَسِّرِينَ إِلَى أَنَّ أَوَّلَ سُورَةٍ نَزَلَتْ فَاتِحَةُ الْكِتَابِ (قَالَ السُّيُوطِيُّ) وَقَالَ ابْنُ حَجَرٍ: وَالَّذِي ذَهَبَ إِلَيْهِ أَكْثَرُ الْأَئِمَّةِ هُوَ الْأَوَّلُ. وَأَمَّا الَّذِي نَسَبَهُ إِلَى الْأَكْثَرِ فَلَمْ يَقُلْ بِهِ إِلَّا عَدَدٌ أَقَلُّ مِنَ الْقَلِيلِ بِالنِّسْبَةِ إِلَى مَنْ قَالَ بِالْأَوَّلِ. وَحُجَّتُهُ مَا أَخْرَجَهُ الْبَيْهَقِيُّ فِي " الدَّلَائِلِ " وَالْوَاحِدِيُّ مِنْ طَرِيقِ يُونُسَ بْنِ بُكَيْرٍ عَنْ يُونُسَ بْنِ عَمْرٍو عَنْ أَبِيهِ عَنْ أَبِي مَيْسَرَةَ عَمْرِو بْنِ شُرَحْبِيلَ أَنَّ رَسُولَ اللهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - قَالَ لِخَدِيجَةَ: " إِنِّي إِذَا خَلَوْتُ وَحْدِي سَمِعْتُ نِدَاءً، فَقَدْ وَاللهِ خَشِيتُ أَنْ يَكُونَ هَذَا أَمْرًا. فَقَالَتْ: مَعَاذَ اللهِ، مَا كَانَ اللهُ لِيَفْعَلَ بِكَ، فَوَاللهِ إِنَّكَ لَتُؤَدِّي الْأَمَانَةَ، وَتَصِلُ الرَّحِمَ، وَتَصْدُقُ الْحَدِيثَ " - وَفِي الْحَدِيثِ أَنَّهُ أَخْبَرَ وَرَقَةَ بْنَ نَوْفَلٍ بِذَلِكَ، وَأَنَّ وَرَقَةً أَشَارَ عَلَيْهِ بِأَنْ يَثْبُتَ وَيَسْمَعَ النِّدَاءَ، وَأَنَّهُ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - لَمَّا خَلَا نَادَاهُ - أَيِ الْمَلَكُ - " يَا مُحَمَّدُ قُلْ: (بِسْمِ اللهِ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ الْحَمْدُ لِلَّهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ) - حَتَّى بَلَغَ - (وَلَا الضَّالِّينَ) قَالَ السُّيُوطِيُّ فِي الْحَدِيثِ: هَذَا مُرْسَلٌ، رِجَالُهُ ثِقَاتٌ، وَنَقَلَ عَنِ الْبَيْهَقِيِّ احْتِمَالَ أَنَّ هَذَا بَعْدَ نُزُولِ صَدْرِ (اقْرَأْ بِاسْمِ رَبِّكَ).
هَذَا - وَأَمَّا الْأُسْتَاذُ الْإِمَامُ فَقَدْ رَجَّحَ أَنَّهَا أَوَّلُ مَا نَزَلَ عَلَى الْإِطْلَاقِ، وَلَمْ يَسْتَثْنِ قَوْلَهُ تَعَالَى: " (اقْرَأْ بِاسْمِ رَبِّكَ " وَنَزَعَ فِي الِاسْتِدْلَالِ عَلَى ذَلِكَ مَنْزَعًا غَرِيبًا فِي حِكْمَةِ الْقُرْآنِ وَفِقْهِ الدِّينِ فَقَالَ مَا مِثَالُهُ.
وَمِنْ آيَةِ ذَلِكَ: أَنَّ السُّنَّةَ الْإِلَهِيَّةَ فِي هَذَا الْكَوْنِ - سَوَاءٌ أَكَانَ كَوْنَ إِيجَادٍ أَوْ كَوْنَ تَشْرِيعٍ - أَنْ يُظْهِرَ سُبْحَانَهُ الشَّيْءَ مُجْمَلًا ثُمَّ يَتْبَعُهُ التَّفْصِيلُ بَعْدَ ذَلِكَ تَدْرِيجًا، وَمَا مَثَلُ الْهِدَايَاتِ الْإِلَهِيَّةِ