مِنَ الْأَنْبِيَاءِ: (أُولَئِكَ الَّذِينَ هَدَى اللهُ فَبِهُدَاهُمُ اقْتَدِهِ) حَيْثُ بَيَّنَ أَنَّ الْقَصَصَ إِنَّمَا هِيَ لِلْعِظَةِ وَالِاعْتِبَارِ. وَفِي قَوْلِهِ تَعَالَى: (غَيْرِ الْمَغْضُوبِ عَلَيْهِمْ وَلَا الضَّالِّينَ) تَصْرِيحٌ بِأَنَّ غَيْرَ الْمُنْعَمِ عَلَيْهِمْ فَرِيقَانِ: فَرِيقٌ ضَلَّ عَنْ صِرَاطِ اللهِ، وَفَرِيقٌ جَاحَدَهُ وَعَانَدَ مَنْ يَدْعُو إِلَيْهِ، فَكَانَ مَحْفُوفًا بِالْغَضَبِ الْإِلَهِيِّ وَالْخِزْيِ فِي هَذِهِ الْحَيَاةِ الدُّنْيَا. وَبَاقِي الْقُرْآنِ يُفَصِّلُ لَنَا فِي أَخْبَارِ الْأُمَمِ هَذَا الْإِجْمَالَ عَلَى الْوَجْهِ الَّذِي يُفِيدُ الْعِبْرَةَ فَيَشْرَحُ حَالَ الظَّالِمِينَ الَّذِينَ قَاوَمُوا الْحَقَّ عِنَادًا، وَالَّذِينَ ضَلُّوا فِيهِ ضَلَالًا. وَحَالَ الَّذِينَ حَافَظُوا عَلَيْهِ وَصَبَرُوا عَلَى مَا أَصَابَهُمْ فِي سَبِيلِهِ.
فَتَبَيَّنَ مِنْ مَجْمُوعِ مَا تَقَدَّمَ: أَنَّ الْفَاتِحَةَ قَدِ اشْتَمَلَتْ إِجْمَالًا عَلَى الْأُصُولِ الَّتِي يُفَصِّلُهَا الْقُرْآنُ تَفْصِيلًا، فَكَانَ إِنْزَالُهَا أَوَّلًا مُوَافِقًا لِسُنَّةِ اللهِ تَعَالَى فِي الْإِبْدَاعِ. وَعَلَى هَذَا تَكُونُ الْفَاتِحَةُ جَدِيرَةً بِأَنْ تُسَمَّى (أُمُّ الْكِتَابِ) كَمَا نَقُولُ إِنَّ النَّوَاةَ أُمُّ النَّخْلَةِ، فَإِنَّ النَّوَاةَ مُشْتَمِلَةٌ عَلَى شَجَرَةِ النَّخْلَةِ كُلِّهَا حَقِيقَةً، لَا كَمَا قَالَ بَعْضُهُمْ: إِنَّ الْمَعْنَى فِي ذَلِكَ أَنَّ الْأُمَّ تَكُونُ أَوَّلًا وَيَأْتِي بَعْدَهَا الْأَوْلَادُ.
وَأَقُولُ الْآنَ: هَذَا مَا قَالَهُ الْأُسْتَاذُ الْإِمَامُ مَبْسُوطًا مُوَضَّحًا، وَيُمْكِنُ أَنْ يُقَالَ: إِنَّ نُزُولَ أَوَّلِ سُورَةِ الْعَلَقِ قَبْلَ الْفَاتِحَةِ لَا يُنَافِي هَذِهِ الْحِكَمَ الَّتِي بَيَّنَهَا؛ لِأَنَّهُ تَمْهِيدٌ لِلْوَحْيِ الْمُجْمَلِ وَالْمُفَصَّلِ، خَاصٌّ بِحَالِ النَّبِيِّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - وَإِعْلَامٌ لَهُ بِأَنَّهُ يَكُونُ - وَهُوَ أُمِّيٌّ - قَارِئًا بِعِنَايَةِ اللهِ تَعَالَى وَمُخْرِجًا لِلْأُمِّيِّينَ مِنْ أُمِّيَّتِهِمْ إِلَى الْعِلْمِ بِالْقَلَمِ، أَيِ الْكِتَابَةِ، وَفِي ذَلِكَ اسْتِجَابَةٌ لِدَعْوَةِ إِبْرَاهِيمَ (رَبَّنَا وَابْعَثْ فِيهِمْ رَسُولًا مِنْهُمْ يَتْلُو عَلَيْهِمْ آيَاتِكَ وَيُعَلِّمُهُمُ الْكِتَابَ وَالْحِكْمَةَ وَيُزَكِّيهِمْ) (٢: ١٢٩) فَسَّرَ الْأُسْتَاذُ الْإِمَامُ الْكِتَابَ، بِالْكِتَابَةِ، ثُمَّ كَانَتِ الْفَاتِحَةُ أَوَّلَ سُورَةٍ نَزَلَتْ كَامِلَةً، وَأُمِرَ النَّبِيُّ بِجَعْلِهَا أَوَّلَ الْقُرْآنِ، وَانْعَقَدَ عَلَى ذَلِكَ الْإِجْمَاعُ.