فَوَائِدُ فِي تَفْسِيرِ الْفَاتِحَةِ
كَانَ غَرَضُنَا الْأَوَّلُ مِنْ كِتَابَةِ تَفْسِيرِ الْفَاتِحَةِ وَنَشْرِهِ فِي الْمَنَارِ هُوَ بَيَانُ مَا نَسْتَفِيدُهُ مِنْ دُرُوسِ شَيْخِنَا الْأُسْتَاذِ الْإِمَامِ، مَعَ شَيْءٍ مِمَّا يَفْتَحُ اللهُ بِهِ عَلَيْنَا بِالِاخْتِصَارِ، فَلِذَلِكَ اخْتَصَرْنَا فِيمَا كَتَبْنَاهُ أَوَّلًا، ثُمَّ لَمَّا طَبَعْنَا تَفْسِيرَ الْفَاتِحَةِ عَلَى حِدَتِهِ مَرَّةً ثَانِيَةً زِدْنَا فِيهِ بَعْضَ زِيَادَاتٍ، وَكَانَ بُدًّا لَنَا أَنْ نَجْعَلَ هَذَا التَّفْسِيرَ مُطَوَّلًا مُسْتَوْفًى. وَلِهَذَا زِدْنَا فِي تَفْسِيرِ الْفَاتِحَةِ هُنَا زِيَادَاتٍ كَثِيرَةً كَمَا نَبَّهْنَا عَلَى ذَلِكَ فِي الْمُقَدِّمَةِ. وَبَعْدَ الْفَرَاغِ مِنْ طَبْعِهِ رَأَيْنَا أَنْ نُعَزِّزَهُ بِالْفَوَائِدِ الْآتِيَةِ:
(حِكْمَةُ إِيثَارِ ذِكْرِ الرُّبُوبِيَّةِ وَالرَّحْمَةِ فِي أَوَّلِ الْفَاتِحَةِ عَلَى سَائِرِ الصِّفَاتِ)
قَدْ عَلِمْتَ أَنَّ اسْمَ الْجَلَالَةِ (اللهُ) هُوَ اسْمُ الذَّاتِ الْجَامِعُ لِمَعَانِي الصِّفَاتِ الْعُلْيَا، وَسَائِرِ الْأَسْمَاءِ الْحُسْنَى، وَالْأُصُولِ مِنْ هَذِهِ الْأَسْمَاءِ وَالصِّفَاتِ الَّتِي تَرْجِعُ إِلَيْهَا غَيْرُهَا، وَتَعُودُ إِلَيْهَا مَعَانِيهَا وَلَوْ بِطْرِيقِ اللُّزُومِ أَرْبَعَةٌ:
اثْنَانِ مِنْهَا ذَاتِيَّانِ وَهُمَا (الْحَيُّ الْقَيُّومُ)
وَالِاثْنَانِ الْآخَرَانِ: فِعْلِيَّانِ وَهُمَا الرَّبُّ وَالرَّحْمَنُ الرَّحِيمُ، وَبِتَعْبِيرٍ أَظْهَرَ أَوْ أَصَحَّ اثْنَانِ مِنْهُمَا لَا يَتَعَلَّقَانِ بِتَدْبِيرِ الْخَلْقِ، وَاثْنَانِ يَتَعَلَّقَانِ بِهِ، فَالْحَيُّ ذُو الْحَيَاةِ وَهِيَ بِأَعَمِّ مَعَانِيهَا الصِّفَةُ الْوُجُودِيَّةُ الَّتِي هِيَ الْأَصْلُ فِي مَعْقُولِنَا لِجَمِيعِ صِفَاتِ الْكَمَالِ فِي الْوُجُودِ مِنْ صِفَاتِ ذَاتٍ وَصَفَاتِ أَفْعَالٍ كَالْعِلْمِ وَالْقُدْرَةِ وَالْإِرَادَةِ وَالسَّمْعِ وَالْبَصَرِ وَالْكَلَامِ، وَهِيَ الصِّفَاتُ الَّتِي يُسَمِّيهَا عُلَمَاءُ الْكَلَامِ صِفَاتِ الْمَعَانِي. وَيَجْعَلُونَ عَلَيْهَا مَدَارَ مَعْرِفَةِ اللهِ تَعَالَى مَعَ الصِّفَاتِ السَّلْبِيَّةِ الَّتِي يُرَادُ بِهَا تَنْزِيهُهُ سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى عَمَّا لَا يَلِيقُ مِنَ النَّقْصِ وَمُشَابَهَةِ الْخَلْقِ كَالرَّحْمَةِ وَالْحِلْمِ وَالْغَضَبِ وَالْعَدْلِ وَالْعِزَّةِ وَالْخَالِقِيَّةِ وَالرَّازِقِيَّةِ إِلَخْ، وَكَمَالُ الْحَيَاةِ يَسْتَلْزِمُ الِاتِّصَافَ بِهَذِهِ الصِّفَاتِ وَبِغَيْرِهَا مِنْ صِفَاتِ الْكَمَالِ.
وَالْحَيَاةُ فِي الْخَلْقِ قِسْمَانِ: حِسِّيَّةٌ وَمَعْنَوِيَّةٌ، فَالْأُولَى: الْحَيَاةُ النَّبَاتِيَّةُ، وَالْحَيَاةُ الْحَيَوَانِيَّةُ، وَلِكُلٍّ مِنْهَا صِفَاتٌ لَازِمَةٌ لَهَا أَعْلَاهَا فِي الْحَيَاةِ الثَّانِيَةِ حَيَاةُ الْإِنْسَانِ الَّتِي مِنْ خَوَاصِّهَا الْعِلْمُ وَالْإِرَادَةُ وَالْقُدْرَةُ وَالسَّمْعُ وَالْبَصَرُ وَالْكَلَامُ وَغَيْرُ ذَلِكَ مِمَّا يَفْقِدُهُ بِالْمَوْتِ. وَالثَّانِيَةُ الْحَيَاةُ الْعَقْلِيَّةُ وَالْعِلْمِيَّةُ وَالرُّوحِيَّةُ الدِّينِيَّةُ. وَمِنَ الشَّوَاهِدِ الْقُرْآنِيَّةِ عَلَى هَذِهِ الْحَيَاةِ قَوْلُهُ تَعَالَى: (لِيُنْذَرَ مَنْ كَانَ حَيًّا) (٣٦: ٧٠) وَقَوْلُهُ: (اسْتَجِيبُوا لِلَّهِ وَلِلرَّسُولِ إِذَا دَعَاكُمْ لِمَا يُحْيِيكُمْ) (٨: ٢٨) وَكَمَالُ هَذِهِ الْحَيَاةِ لِلْبَشَرِ لَا يَكُونُ إِلَّا فِي الْآخِرَةِ وَإِنَّمَا يَكُونُ الِاسْتِعْدَادُ لَهُ فِي الدُّنْيَا بِتَزْكِيَةِ النَّفْسِ بِالْعِلْمِ وَالْعَمَلِ.
وَحَيَاةُ الْخَالِقِ تَعَالَى أَعْلَى وَأَكْمَلُ مِنْ حَيَاةِ جَمِيعِ خَلْقِهِ مِنَ الْجِنِّ وَالْإِنْسِ وَالْمَلَائِكَةِ


الصفحة التالية
Icon